و بین هذه الامور و فی ذلک العصر کانت نشأة أبیحنیفة، و هو من أولئک القوم الذین نالهم الاذی فی تلک المدة، و کان یشعر بما یشعر به أبناء جنسه، و یعظم علیه إهانتهم و تعذیبهم، و قد شاهد فی الکوفة و غیرها تلک الاوضاع الشاذة، و السیرة المخالفة للاسلام، و بالطبع ان نفسه کانت تتأثر.
و بعد أن تحول الحکم من الأمویین إلی العباسیین، و الموالی هم الذین شاطروا فی هذا الانقلاب، بل کان العباسیون یعدونهم من خلص أنصارهم، و رجال دعوتهم فاتجهوا إلیهم و نصروهم، فکان النشاط الذی أحرزه الموالی یسترعی الأنظار، و یبعث علی العجب، خصوصاً حینما نراهم یلتفون حول الإمام أبیحنیفة و یعتزون بشخصیته بعدما أصبح یترأس حلقة علمیة خلفها له استاذه حماد، و هو من الموالی.
و أبوحنیفة هو ذلک الرجل الذی عرف بقوة النفس، و علو الهمة و کان ذا فطنة و لباقة، و له سیرة خاصة فی معالجة مشاکل الحیاة، فتراه یقتحم مواقع الخطر و یزج نفسه فیها، فتحدث الناس عنه و اشتهر اسمه و کان مع ذلک علی جانب عظیم من المداراة لخصومه، فقد کانوا یسمعونه السب و یقرعون سمعه بالنقد المر، و کان حسن المعاشرة لأصحابه یصلهم برفده، و یساعدهم بمعروفه، و له ثروة تساعده علی ذلک و تمهد له الطریق. و لما هجاه مساور بقوله:
کنا من الدین قبل الیوم فی سعة++
حتی بلینا بأصحاب المقاییس
قاموا من السوق إذ قامت مکاسبهم++
فاستعملوا الرأی بعد الجهد و البؤس
فلقیه ابوحنیفة فقال: هجوتنا یا مساور، نحن نرضیک فوصله بدراهم فقال مساور:
إذا ما الناس یوماً قایسونا++
بآبدة من الفتیا طریفه
أتیناهم بمقیاس صحیح++
تلاد من طراز أبیحنیفه
إذا سمع الفقیه بها وعاها++
و اثبتها بحبر من صحیفه
فأجابه أصحاب الحدیث:
إذا ذو الرأی خاصم عن قیاس++
و جاء ببدعة هنة سخیفه
أتیناهم بقول الله فیها++
و آثار مبرزة شریفه
إلی آخر الابیات التی ذکرها ابنقتیبة(1) و ابن عبد ربه(2) و لا یسع المجال لذکر ما نتج من وراء ذلک الخلاف بین أهل الحدیث و أهل الرأی من هجاء و مناوشات، و کانت السلطة تشجع تلک الحرکة، و تضاعف أسباب الخلاف من وراء الستار لغایة فی نفوسهم.
و علی أی حال فقد اتجه أبوحنیفة إلی الفقه بعد أن قضی مدة من حیاته التجارة ثم قرأ الکلام، و درس علی مشایخ عصره، و حضر علی عطاء بن رباح فی مکة و هو من الموالی، و علی نافع مولی ابنعمر فی المدینة، و أخذ عن عاصم بن أبیالنجود و عطیة العوفی، و عبدالرحمن بن هرمز مولی ربیعة ابن الحارث، و زیاد بن علاقة، و هشام بن عروة و آخرین، ولکنه لزم واحداً منهم ملازمة تامة و تخرج علیه و هو حماد بن أبیسلیمان الأشعری، و هو الذی اختص به أبوحنیفة و حضر درسه و تخرج علیه إلی أن مات سنة 120 ه و عمر أبیحنیفة أربعون سنة و قد أکثر ابوحنیفة الروایة عنه.
و یحدث أبوحنیفة عن صلته بشیخه حماد بقوله: قدمت البصرة فظننت انی لا أسأل عن شیء إلا أجبت عنه فسألونی عن أشیاء لم یکن عندی فیها جواب، فجعلت علی نفسی أن لا أفارق حمادا حتی یموت، فصحبته ثمانی عشرة سنة.
و لم تکن ملازمته لحماد بحیث لم ینقطع عنه و لم یأخذ عن غیره لأنه کان کثیر الرحلة إلی بیت الله الحرام حاجاً، و التقی هناک بکثیر من التابعین و سمع منهم و اجتمع بأئمة أهل البیت، و روی عنهم کزید بن علی و الإمام محمد الباقر و ابنه الصادق و عبدالله بن حسن بن حسن.
1) المعارف ص 216.
2) العقد الفرید ص 408.