و من حسن طالعه أن یقع فی عصره الخلاف بین أهل الحدیث و أهل الرأی، أو بین العرب و الموالی و تشتد الخصومة، و یکثر بینهم التهاجی، و هو یترأس حلقة أستاذه حماد و هی احدی حلقات العلم بالکوفة، و بالطبع ان الملتفین حوله و المجتمعین الیه أکثرهم من الموالی و أکثرهم یحقد علی العرب الذین نظروا الیهم نظر السید الی المسود و الشریف الی الوضیع، حتی بعثوا فیهم روح النعرة و تلک نزعة غذتها بنوأمیة و عاملوا الموالی معاملة سیئة، فلم یعدلوا معهم فی الحکم، و قد کانت تلک النزعة تبعث فی نفوس المفکرین من الموالی حقدا یأکل قلوبهم.
و تطورت الحرکة الفکریة و اتجه الناس فی آخر الدولة الامویة الی أمور لم یکن فی وسعهم الاتجاه الیها فی ابان عظمة الدولة و کانت فی الکوفة حلقات العلم یجلس طلابه الی شیوخ عرفوا بذلک. فکانت حلقات للمتکلمین بجانب حلقات الفقه و حلقات الشعر و الأدب یتکلمون فیها بالقضاء و القدر، و الکفر و الایمان، و یستعرضون أعمال الصحابة فی الحرب و غیرها، و قد اختار أبوحنیفة حلقة المتکلمین.(1)
کما زخرت الکوفة برجال العلم، و اتسع نطاق الحرکة الفکریة و اتجه الناس للبحث و وقع الخلاف بین أهل الرأی و أهل الحدیث، و أخذت السلطة
فی تشجیع أهل الرأی و اندفع الموالی(2) إلی التزاحم علی طلب الشهرة و النبوغ فی الجمتمع، عندما أصبحوا و لهم قوة علی إیجاد کتلة متماسکة الأجزاء، فکثر عددهم فی الکوفة و قوی جمعهم، و أصبح منهم رجال تبوأوا مناصب الدولة، فمنهم قواد جیش و أمراء بلدان، و علماء یشار إلیهم بالأصابع، و منهم الأدباء و رواة حدیث، و قد اجتازوا مراحل العنف و الشدة، و انتقلوا من عهد الاستبداد و القسوة و عدم المساواة فی الحکم بینهم و بین العرب، و قد کان الأمویون یتعصبون لأنصارهم و عشیرتهم و یحتقرون الموالی ممها کانت میزاتهم و کفاءتهم، و تابعهم بعض المتعصبین من العرب و نهجوا هذا المنهج، خلافاً لما شرعه الله و سار علیه الرسل الأعظم فکانوا یضعون من قیمة الموالی و یحتقرونهم.
یقول الأصفهانی: کانت العرب إلی أن جاءت الدولة العباسیة، إذا أقبل العربی من السوق و معه شیء فرأی مولی دفعه إلیه لیحمله عنه فلا یمتنع.
و تزوج رجل من الموالی بنتاً من أعراب بنیسلیم، فرکب محمد بن بشیر الخارجی إلی المدینة، و والیها یومئذ إبراهیم بن هشام بن إسماعیل، فشکا إلیه فارسل الوالی إلی المولی ففرق بینه و بین زوجته، و ضربه مائتی سوط، و حلق رأسه، و حاجبه و لحیته، فقال محمد بن بشیر:
قضیت بسنة و حکمت عدلا++
و لم ترث الحکومة من بعید
و قد نفذ الأمویون هذه السیاسة بشدة، و غذوا هذه النزعة بأعمالهم التی عاملوا بها الموالی، و قد شرعها لهم معاویة بن أبیسفیان، لأنه عرف عدل الامام علی بن أبیطالب و مساواته فی الرعیة، الأمر الذی أدی إلی تقاعد من تحکمت به هذه النزعة الشریرة عن نصرته، فأراد معاویة استمالتهم و تحویلهم إلیه.
روی المدائنی أن طائفة من أصحاب علی علیهالسلام مشوا إلیه فقالوا: یا أمیرالمؤمنین اعط هذه الأموال، و فضل هؤلاء الاشراف من العرب و قریش علی الموالی و العجم، و استمل من تخاف خلافه من الناس – و انما قالوا له ذلک لما کان معاویة یصنع فی المال – فقال لهم: أتأمروننی أن أطلب النصر بالجور؟!(2)
و حوادث التاریخ مملوءة بالشواهد علی ذلک من الأمور التی بعثت المفکرین من الموالی إلی الحقد علی العرب.
1) ضحی الاسلام ج 2 ص 178.
2) شرح النهج.