و لا شک ان الامام الصادق نشأ فی وسط مجتمع لا یتصل بآل البیت إلا من طریق الحذر و التکتم لشدة المراقبة التی تحوط بهم من السلطة الأمویة، و شاهد طلاب العلم یتصلون بمدرسة جده و أبیه و هم بأشد حذر، لأن ذلک الدور لا یستطیع أحد أن یتظاهر بالاتصال بآل محمد و من عرف فی ذلک فانما مصیره القبر أو ظلمة السجن الی حیث الأبد.
نشأ الصادق فی عصر تتنازع فیه الأهواء، و تضطرب فیه الأفکار و طغت فیه موجة الاحن و الأحقاد، و تلاطمت فیه أمواج الظلم و الارهاب.
و تقرب الناس الی ولاة الأمر بالوشایات و الاتهامات فلا حرمة للنفوس و لا قیمة للدین و لا نظام یشمل الرعیة، بل هی فوضی و الأمراء یحکمون بما شاءوا و الرعیة بین أیدیهم العوبة لأغراضهم.
و أشد الناس بلاءاً هم أنصار آل محمد و شیعتهم و اتخذ خصومهم شتم علیّ سنة یتمون به فرضهم، فلا یدخل الداخل الی مسجد و لا معبد و لا مجلس و لا حلقة علم إلا و یسمع تلک العبارات التی یعبر بها أولئک القوم عن سوء سریرتهم، و لا یکاد یصغی لخطیب أو قصاص أو واعظ إلا و کانت براعة استهلاله شتم علی علیهالسلام.
فکان آل محمد یلاقون تلک المشاق و یواجهون تلک المصاعب بقلوب مطمئنة بما وعد الله الصابرین، و کل هذه الأمور شاهدها الامام الصادق فی نشأته، أو أخذ عنها من أبیه صورة واقعیة بعد حدوثها، فبعین الله ما لقیت الأمة الاسلامیة و ما لقی آل محمد الذین هم حملة العلم و مبلغی رسالات الاسلام.
أدرک الامام الصادق صلوات الله علیه ثلاث سنین من خلافة عبدالملک، و تسع سنین و ثمانیة أشهر من خلافة الولید بن عبدالملک، و ثلاث سنین و ثلاثة أشهر و خمسة أیام من خلافة سلیمان، و سنتین و خمسة أشهر من خلافة عمر ابن عبدالعزیز، و اربع سنوات و شهراًمن خلافة یزید بن عبدالملک، و عشرین سنة من خلافة هشام بن عبدالملک، و سنة واحدة من خلافة الولید بن یزید، و ستة أشهر من خلافة یزید بن الولید، و بعده لم یبق خلیفة الأمویین بعینه لکثرة الاضطرابات حتی زال ملکهم فی سنة 132 ه.
کل هذه الأدوار شاهدها الامام الصادق، و هو یعیش و أهل بیته بتلک الدائرة الضیقة محاطا بالرقابة، لتلک الاتهامات التی یحوکها ضده المتقربون لخصوم آل محمد، و هو یری بین آونة و أخری مصارع زعماء الشیعة و سجن آخرین و مطاردة السلطة لبقیة السیف منهم، و کان یطرق سمعه مدة تسع عشرة سنة شتم جده علی علیهالسلام و انتقاص آله، و کان یری بعض ولاة المدینة یجمع العلویین یوم الجمعة قریبا من المنبر یسمعهم شتم علی و انتقاصه، حتی ولی عمر بن عبدالعزیز سنة 99 ه فرفع السب عن علی علیهالسلام کما سیأتی بیانه.