من تتبع موارد الوصیة یری أنها لیست علی نسق واحد، فان الوصیة فی بعضها تتم بمجرد الایجاب، و لا تحتاج الی قبول، کمن أوصی لآخر أن یفی دیونه، و یرعی اطفاله، و تسمی هذه بالوصیة العهدیة.
و أیضا لا یشترط القبول اذا کانت الوصیة لعنوان عام، کالفقراء و المساجد، حیث تتم الوصید بایجابها و موت الموصی، و یجب تنفیذها دون الرجوع الی الحاکم الشرعی بدلیل سیرة الفقهاء و عملهم قدیمها و حدیثا. قال صاحب المسالک: «لو کانت الوصیة لجهة عامة انتقلت الیها بلا خلاف».
و بعضها یحتاج الی قبول، و لا تتم الوصیة الا به، کمن أوصی بشیء من ماله لشخص معین، و تسمی هذه الوصیة تملیکیة.. اذن لا مناص من القول بأن الوصیة تکون عقد اذا تعلقت بتملیک شخص معین، و تکون ایقاعا فیما عدا ذلک، و لامانع من الشرع و لا من العقل ان یکون الشی ء الواحد عقدا فی مورد، و ایقاعا فی مورد آخر تبعا للموضوع الذی تدور الأسماء مداره وجودا و عدما.
و یتحقق الایجاب من الموصی مطلقا، و القبول من الموصی له الخاص
المعین، یتحققان بکل ما دل علیهما من قول أو فعل أو کتابة، فالمعیار أن نعلم أو نطمئن بوجود الارادة عن وسیلة من وسائل التعبیر أیا کان نوعها، فلا أثر لوجود الارادة واقعا، و من حیث هی اذا لم یعبر المرید عنها بوسیلة من الوسائل المألوفة عند أهل العرف، و لا للأداة اذا کان مدلولها غیر مراد.
و تسأل: اذا وجدت الاداة المعبرة بظاهرها عن الارادة، و شککنا: هل هی حجة یجب الأخذ بها أو لا؟ فماذا نصنع؟
الجواب: اذا شککنا فی أصل التعبیر، و ان هذه الاداة معبرة أو غیر معبرة فلا یجوز الاعتماد علیها بحال، لعدم جواز الاعتماد علی الظن مع عدم الدلیل علیه، فکیف بالشک، و اذا کانت قطعیة الدلالة علی المراد وجب الاعتماد علیها، لفظا کانت أو فعلا أو اشارة، اذ لیس وراء العلم شیء.
و اذا کانت الاداة ظنیة الدلالة ینظر: فان دل علی الأخذ بها دلیل من الشرع کشهادة العدلین، أو من طریقة العقلاء و عاداتهم، فهی، و الا یکون لغوا.
و لیس من ریب أو ظواهر الألفاظ حجة عند العرف، و انهم لا یعتنون بالاحتمالات المخالفة لظواهرها الا مع القرائن الدالة علیها.
أما الکتابة فهی مثل اللفظ عند أهل العرف، سواء أسجلها صاحبها فی دائرة رسمیة أو لا، أشهد علی نفسه أو لم یشهد، قادرا علی التلفظ أو عاجزا عنه، غائبا کان أو حاضرا علی شریطة أن نعلم بأن الکتابة بخط یده، و ان ظاهرها دال علی التزامه بها، و ابرامه لها… و کذا الأفعال الدالة علی القصد فانها بحکم اللفظ و الکتابة، قال صاحب الجواهر: «یجوز أن یکون القبول فعلا دالا علی الرضا بالایجاب بلا خلاف أجده»… و اذا جاز ان یکون القبول فعلا جاز أیضا أن یکون الایجاب کذلک ما دام کل منهما جزءا من العقد. و بکلمة ان الوصیة تنعقد
بالمعاطاة، کما تنعقد بغیرها.
أما الاشارة المعبرة عن القصد فانها حجة مع العجز عن النطق، اذ لا وسیلة للتعبیر الا بها، أما مع القدرة علی التلفظ أو الکتابة فلیس الاشارة بشیء حیث لم یعهد من العقلاء و عاداتهم أنهم یعتمدون علی الاشارة مع القدرة علی النطق فی الامور الهامة، کالوصیة و ما الیها.. و لو افترض وجود بلد یعتمد أهله علی الاشارة مع القدرة علی اللفظ لکانت اشارتهم حجة متبعة.
و بالجملة أنا نعلم علم الیقین بأن الشارع لم یقید الناس بطریق من طرق الافصاح و البیان عن مقاصدهم الا فی موارد خاصة کالزواج و الطلاق، و انما أوجب علیهم الوفاء بعقودهم، و ألزمهم بشروطهم، و کفی، و علیه فکل ما دل عندهم علی القصد و عبر عنه فهو حجة یعتمد علیها.