اختلفوا فی الأخلاق؛
فقیل: کلّها طبیعیّةٌ غریزیّةٌ تمنع زوالها ـ کالحرارة للنار و البرودة للماء ـ، لأنّها تتبع المزاج و هو ممّا لایتبدّل. و لا ینافیه اختلاف مزاج شخصٍ واحدٍ فی مراتب سنّه، لتبعیّتها لجمیع مراتبه. و یؤیّده قوله ـ صلّى اللّه علیه و آله و سلّم ـ: «الناس معادنٌ کمعادن الذهب و الفضّة، خیارهم فی الجاهلیّة خیارهم فی الإسلام»(1)، و قوله – علیه السلام ـ: «إذا سمعتم انّ جبلاً زال عن مکانه فصدّقوه، و إذا سمعتم برجلٍ زال عن خُلقه فلاتصدّقوه!، فانّه سیعود إلى ما جبّل علیه»(2)، قال الشاعر:
وَ مَا هَذِهِ الاَخْلاَقُ إِلاَّ غَرَائِز++
فَمِنهُنَّ مَحمُودٌ وَ مِنهَا مَذَمَّمُ
وَ لَنْیَستَطِیعَ الدَّهرَ تَغیِیرَ خُلقِهِ++
لَئِیمٌ وَ لاَیَستَطِیعُهُ مُتَکَرِّمُ
و یدلّ علیه قوله ـ صلّى اللّه علیه و آله و سلّم ـ: «من آتاه اللّه وجهاً حسناً و خُلقاً
حسناً فلیشکر اللّه»(3)؛
و فیه: انّ توابع المزاج من المقتضیّات الممکنة زوالها ـ لا من اللوازم ـ، لکون النفوس متّفقة الحقیقة؛ و خلوّها فی بدو الفطرة عن جمیع الأخلاق و الأحوال ـ کما هو شأن العقل الهیولانیّ ـ، فهی کصحائف خالیةٍ عن النقوش، و ما یحصل فیها إمّا من مقتضیّات العادة بالاختیار و الرویّة، أو استعداد الأمزجة، و المقتضی ممکن الزوال ـ کالبرودة للماء ـ و لا یمتنع انفکاکه ـ کالزوجیّة للأربعة(4) ـ.
و الخبران ـ بعد ثبوتهما(5) ! ـ لا دلالة لهما أصلاً؛
و الشعر لا عبرة به!.
و قیل: لیست طبیعیّةً و لا منافیةً للطبیعة، بل هی خالیةٌ فی بدو الفطرة عن جمیعها، فما یوافق مزاجه یسهل تصییرها ملکةً بالممارسة و الاعتیاد، و ما یخالفه یصعب تحصیله، فیحتاج إلى تکلّفٍ؛ و یظهر وجهه ممّا ذکرناه.
و ربّما تقرّر الحجّة هکذا: الأخلاق قابلةٌ للتغییر، و کلّ ما کان کذلک فلیس طبیعیّاً؛ و الکبرى ضروریّةٌ، و الصغرى وجدانیّةٌ ـ لما نجد من صیرورة الخیّر شریراً و بالعکس، و تأثیر التأدیب و التعلیم فی زوالها ـ. و لولاه لم یکن للفکر فائدةٌ، و بطلت السیاسات.
و یؤیّده ورود الأمر به فی الآیات و الأخبار؛ قال ـ تعالى ـ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَکَّاهَا)(6)،
و قال ـ صلّى اللّه علیه و آله و سلّم ـ: «بعثت لأتمّم مکارم الأخلاق»(7)؛
و قال – علیه السلام ـ: «حسّنوا أخلاقکم»(8)؛
و ردّ بمنع الکلّیّة، لما نشاهد من عدم قبول بعضها للتغیّر، سیّما ما یتعلّق بالقوّة النظریّة ـ کالحدس و التحفّظ و جودة الذهن و مقابلاتها ـ.
و یکفی قبول بعضها له، لصحّة السیاسات و الأوامر المذکورة و تحقّق فائدة البعثة، کما انّ صحّة علم الطبّ لاتنافی عدم قبول بعض الأمراض للعلاج؛ و الجواب: انّ عدم القبول فی البعض على سبیل الامتناع ـ کما هو شأن الطبیعیّ ـ ممنوعٌ، غایة ما هناک کون بعضها عسرة الحصول صعبة القبول على مقتضى الأمزجة، و المقتضی لیس من اللوازم ـ کما ذکرنا ـ.
و قیل: یکون بعضها طبیعیّةً و بعضها عادّیّةً؛ و یظهر وجهه ممّا ذکر، مع جوابه.
فخیر الأقوال أوسطها. قال المعلّم الأوّل: «یمکن صیرورة الأشرار أخیاراً بالتأدیب»(9)
و قال بعضهم: «الحقّ انّ أصلها غریزیٌّ و تمامیّتها کسبیّةٌ. و بیانه: انّ اللّه ـ تعالى ـ خلق الأشیاء على ضربین:
أحدهما بالفعل، و لم یجعل للعبد فیه عملاً ـ کالسماء و الأرض و الهیئة ـ ؛
و الثانی بالقوّة، و هو ما خلقه خلقاً مّا و جعل فیه قوّة رشح الإنسان لاکماله و تغیّر حاله و إن لم یرشحه لتغیّر ذاته ـ کالنوى الّذی جعل فیه قوّة النخل، و سهّل للإنسان سبیلاً أن یجعله بعون اللّه نخلاً و أن یفسده إفساداً ـ».
قال: «و الخلق من الإنسان یجری هذا المجرى فی انّه لاسبیل للإنسان إلى تغیّر القوّة الّتی هی السجیّة و الغریزة و جعل له سبیلاً إلى اسلاسها ـ و لهذا قال تعالى: (وَ قَدْ خَابَ مَنْ دَسّاهَا)(10) ـ، و لو لم یکن کذلک لبطلت فائدة المواعظ و الوصایا و الوعد و الوعید و الأمر و
النهی، و لمّا جوّز العقل أن یقال للعبد: لم فعلت؟ و لم ترکت؟.
و کیف یکون هذا فی الإنسان ممتنعاً؟! و قد وجدناه فی بعض البهائم ممکناً، فالوحشیّ قد ینقل بالعادة إلى التأنّس و الجامح إلى السلاسة. لکن الناس فی غرائزهم مختلفون، فبعضهم جبّل جبلّةً سریعة القبول، و بعضهم بطیئة القبول، و بعضهم فی الوسط، و کلٌّ لاینفکّ من أثر قبولٍ و إن قلّ. و من هنا ورد فی الأدعیة طلب التوفیق لمکارم الأخلاق و محاسن الأعمال، و فی الأحادیث الأمر بها و الحثّ علیها»؛ انتهى.
أقول: هذا ما ذکره العلماء الأعلام فی هذا المقام؛ و التحقیق الحقیق بالتصدیق أنّ الأخلاق تابعةٌ للطینة الأصلیّة و مقتضى الأعیان الثابتة فی الحضرة العلمیّة؛ فان اقتضت الجبلّیّة فجبلّیّةٌ، و إن اقتضت الکسبیّة فکسبیّةٌ، فلهذا ترى بعض الأخلاق لایمکن تغیّره و تبدیله، بخلاف بعضٍ آخر؛ فتبصّر!.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ بَلِّغْ بِإِیمَانِی أَکْمَلَ الاِیمَانِ، وَ اجْعَلْ یَقِینِی أَفْضَلَ الْیَقِینِ، وَ انْتَهِ بِنِیَّتِی إِلَى أَحْسَنِ النِّیَّاتِ، وَ بِعَمَلِی إِلَى أَحْسَنِ الاَعْمَالِ.
«البلوغ»: الوصول؛ یقال: بَلَغ المکان بُلوغاً ـ من باب قعد ـ: وصله، و یتعدّی بالباء و التضعیف و الهمزة، فیقال: بلغ به، و بلّغه تبلیغاً، و أبلغه إبلاغاً.
قیل: «و المعنى على القلب، أی: أوصل إیمانی بأکمل الإیمان».
أقول: الأصحّ انّ «الباء» إمّا زائدةٌ(11)، أو للسببیّة، و المفعول محذوفٌ، أی: بلّغنی بسبب إیمانی لک إلى أعالی درجاته؛ فلا قلب.
و قیل: «انّها للمصاحبة».
و «الإیمان» قد مرّ معناه لغةً و اصطلاحاً فی اللمعة الرابعة؛ فلیرجع إلیها.
و هکذا «الیقین» قد مرّ معناه.
و هذا القول منه – علیه السلام ـ یدلّ على قبول الیقین ـ کالإیمان ـ للشدّة و الضعف ـ کما هو الحقّ، خلافاً لبعض المتکلّمین(12) ـ کما مرّ، فتذکّر.
و یدلّ على کونه فوق الإیمان أیضاً، کما صرّح أبوالحسن – علیه السلام ـ بقوله: «الإیمان فوق الإسلام بدرجةٍ، و التقوى فوق الإیمان بدرجةٍ، و الیقین فوق التقوى بدرجةٍ؛ و ما قسّم فی الناس شیءٌ أقلّ من الیقین»(13)
فان قلت: انّه – علیه السلام ـ هو الإنسان الکامل الّذی جمیع کمالاته بالفعل و لیس له حالةٌ منتظرةٌ ـ بل فوق العقول المجرّدة!، کما مرّ غیر مرّةٍ ـ، فما وجه طلب بلوغ إیمانه إلى أکمل الإیمان فی هذه الفقرة ـ و کذا ما بعدها من الفقرات التالیة ـ؟؛
قلنا: له – علیه السلام ـ حالاتٌ و مقاماتٌ کثیرةٌ ـ کما قلنا لک فی وجه عود نفع الصلاة على الحقیقة المحمّدیّة، علیه صلواتٌ غیر متناهیةٍ ـ ؛ ففی حال الالتفات إلى عالم الملک و الشهادة و مقام اللوازم البشریّة یلزمه هذه السؤالات، کسائر اللوازم الکونیّة.
و هذا أحسن ممّا قیل فی هذا المقام من انّه لتعلیم الأمّة.
و «الباء» فی قوله – علیه السلام ـ: «بنیّتی» للتعدیّة، أی: اجعل نیّتی منتهیةً إلى أحسن النیّات؛ أو: للمصاحبة.
<و «النیّة» ـ بالتشدید ـ: اسمٌ من نویت الشیء أنویه، أی: قصدته.
و قیل: «مأخذها من نویت الشیء بمعنى حفظته، لأنّ النیّة محلّها القلب، فسمّیت بذلک لأنّها تفعل بأنوى عضوٍ فی الجسد؛ أی: أحفظ».
و اختلفت عبارات العلماء فی تعریفها(14)؛ فقیل: «هی إرادة الفعل بالقلب، فالإرادة بمنزلة
الجنس، و الوصف بمنزلة الفصل تخرج به إرادة اللّه ـ تعالى ـ»؛
و قیل: «هی جمع الهمّ فی تنفیذ العمل للمعمول له، و أن لایسنح فی السرّ ذکر غیره»(15)؛
و قیل: «هی الإرادة الباعثة المصدّقة المنبعثة عن معرفة کمال الشیء».
و قال بعض فقهائنا: «هی إرادة ایجاد الفعل على الوجه المأمور به شرعاً»(16) و أراد بـ «الإرادة»: إرادة الفاعل، فخرجت إرادة اللّه ـ تعالى ـ لأفعالنا؛
و بـ «الفعل»: ما یعمّ توطین النفس على الترک، فدخلت نیّة الصوم و الإحرام و أمثالها؛
و بـ «المأمور به»: ما ترجّح فعله شرعاً، فدخل المندوب و خرج المباح>(17)
و الحقّ انّها عبارةٌ عن انبعاثٍ إلى ما تراه موافقاً لغرضها ـ حالاً و مآلاً ـ.
و یرادفها القصد و الإرادة؛ و ضدّها: الغفلة، أی: فتورها عن التوجّه إلى ما فیه غرضها.
و هی واسطةٌ بین علمٍ هو مبدؤها و عملٍ هو ثمرتها، إذ ما لم یعلم أمرٌ لم یقصد، و ما لم یقصد لمیفعل، فکلّ فعلٍ یصدر عن الفاعل المختار لایتمّ إلّا بعلمٍ و شوقٍ و إرادةٍ و قدرةٍ. و ذلک لموافقة بعض الأمور لغرضه و مخالفة بعضها له، فاحتاج إلى جلب الموافق و دفع المخالف الموقوفین على ادراکهما ـ إذ ما لم یعرف ذلک لم یعقل طلبه له أو هربه عنه، و هو العلم ـ؛ و على المیل و الرغبة و الشهوة الباعثة علیه، و هو الشوق ـ لعدم الاکتفاء فی الطلب و الهرب بمجرّد الإدراک من دون شوقٍ ـ ؛ و على القصد و التوجّه إلیه، و هو النیّة.
<و المفهوم من الأخبار إطلاقها على معنیین:
أحدهما: القصد المقارن للفعل الّذی لاینفکّ عنه الفاعل إلّا إذا کان عدیم الشعور ـ و من هنا قال السیّد(18) بن الطاوس: «لو کلّفنا بترک النیّة حال الفعل لکان تکلیفاً بما لایطاق!»(19) ـ ؛
و ثانیهما: انّه الحامل و الباعث على فعل العبادة.
و یختلف باختلاف الأشخاص، و مع تشعّبه یمکن حصره فی ثمانیةٍ:
أوّلها: الریا و السمعة؛ و ثانیها: قصد الثواب أو الخلاص(20) من العقاب، أو هما معاً؛
و ثالثها: فعلها شکراً للمنعم(21) و استجلاباً للمزید؛
و رابعها: فعلها حیاءً منه ـ تعالى ـ ؛
و خامسها: فعلها حبّاً له ـ تعالى ـ(22) ؛
و سادسها: فعلها تعظیماً للّه و مهابةً و انقیاداً و اجابةً؛
و سابعها: فعلها موافقةً لإرادته و طاعةً لأمره؛
و ثامنها: فعلها لکونه ـ تعالى ـ أهلاً لها ـ کما ورد به الحدیث المشهور، و هو قوله: «ما عبدتک خوفاً لنارک(23) … الحدیث»(24) ـ.
و لاخلاف فی بطلان العبادة بالغایة الأولى، کما لاخلاف فی صحّتها بهذه الغایة. و قد اختلف فی صحّة العبادة و بطلانها عند قصد غیرهما من الغایات؛ فجمهور أصحابنا على بطلان العبادة سیّما عند قصد الغایة الثانیة، لأنّ قاصدها بزعمهم إنّما قصد جلب النفع إلى نفسه و قطع(25) الضرر عنها. و قد بالغ السیّد(26) بن طاوس فی بطلان العبادة عند هذه القصد>(27)؛ <بل المستفادّ من کلام الشهید الأوّل فی قواعده انّه مذهب
أکثر أصحابنا ـ رضی اللّه عنهم(28) ـ.
و نقل الفخر الرازی فی التفسیر الکبیر اتّفاق المتکلّمین على أنّ من عبد اللّه لأجل الخوف من العقاب أو الطمع فی الثواب لم تصحّ عبادته(29)؛ و جزم فی أوائل تفسیر الفاتحة بأنّه لو قال: «أصلّی لثواب اللّه، أو الهرب من عقابه» فسدت صلاته!(30)
و ذهب آخرون إلى أنّ القصد المذکور غیر مفسدٍ للعبادة، و منعوا خروجها به عن درجة الإخلاص و منافاته له قائلین: إنّ إرادة ثواب اللّه و النجاة من عقابه لیست أمراً مخالفاً لإرادة وجه اللّه ـ سبحانه ـ ؛ کیف و قد قال اللّه ـ تعالى ـ فی مقام المدح لأصفیائه: (کَانُوا یُسَارِعُونَ فِی الْخَیْرَاتِ وَ یَدعُونَنَا رَغَباً وَ رَهَباً)(31) ـ أی: للرغبة فی الثواب و الرهبة من العقاب ـ، و قال ـ سبحانه ـ: (وَ ادْعُوهُ خَوفاً وَ طَمَعاً)(32)
و اعترض قولهم بأنّ دعوى عدم المخالفة کلامٌ ظاهریٌّ!، للفرق الظاهر بین طاعة المحبوب لمحض محبّته و بین طاعته لغرضٍ آخر؛
و أمّا الاعتضاد بالآیتین، ففیه: انّ کثیراً من المفسّرین ذکروا انّ المعنى: راغبین فی الإجابة راهبین من الردّ و الخیبة.
قال شیخنا البهائیّ ـ رحمه اللّه ـ: «و الأولى أن یستدلّ على ذلک بما رواه ثقة الإسلام فی الکافی(33) بطریقٍ حسنٍ عن هارون بن خارجة عن الإمام أبی عبداللّه – علیه السلام ـ انّه قال: «العباد ثلاثةٌ:
قومٌ عبدوا اللّه ـ عزّ و جلّ ـ خوفاً للعقاب(34)، فتلک عبادة العبید؛
و قومٌ عبدوا اللّه ـ تبارک و تعالى ـ طلباً للثواب، فتلک عبادة الأجراء؛
و قومٌ عبدوا اللّه ـ عزّ و جلّ ـ حبّاً له، فتلک عبادة الأحرار؛ و هی أفضل العبادة». فانّ قوله – علیه السلام ـ: «و هی أفضل العبادة» یعطی أنّ العبادة على الوجهین السابقین لاتخلو من فضلٍ أیضاً، فتکون صحیحةً؛ و هو المطلوب»(35)>(36)
و الحقّ <صحّة العبادة بکلّ هذه النیّات ما عدا الأولى؛ و إن ذهب علم الهدى إلى صحّة الأولى و إجزائها(37)، لکنّها غیر مقبولةٍ و لایترتّب على فعلها ثوابٌ، و إنّما فائدتها اسقاط القضاء.
و للبحث معه محلٌّ آخر، لأنّ الکتاب و السنّة قد اشتملا على المرغّبات المختلفة على فعل العبادات، و على المرهّبات على ترکها بحسب المراتب و الدرجات؛ فتارةً یرغّبنا بالحور الحسان و أخرى بالغلمان و الصبیان، و تارةً بالشراب الطهور و أخرى بالمنازل و القصور؛ و یخوّفنا تارةً بالعقارب و الحیّات و أخرى بالزفیر و الندامات؛ فلو لم تکن مثل هذه المرغّبات و المرهّبات دواعٍ صحیحةٍ و بواعث صریحةٍ لما حسن ذکرها فی مقام طلب الطاعات>(27)
فأعلاها هو درجة أمیرالمؤمنین و سیّد الموحّدین ـ الّذی ینحدر عنه السیل و لایرقی إلیه الطیر! ـ، و لذا قال – علیه السلام ـ: «لولا نا ما عبداللّه و للناس صورة العبادة»(38)
قال بعضهم: «أفضل ما یتقرّب به العبد إلى اللّه أن یعلم أنّه لایرید العبد من الدنیا و الآخرة غیره، قال اللّه ـ تعالى ـ: (وَ اصْبِرْ نَفسَکَ مَعَ الَّذِینَ یَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَ الْعَشِیِّ یُرِیدُونَ وَجْهَهُ)(39)، و هو مقام النبیّین و الصدّیقین و الشهداء». روى فی مصباح الشریعة عن الصادق – علیه السلام ـ انّه قال: «لابدّ للعبد من خالص النیّة فی کلّ حرکةٍ و سکونٍ، لأنّه إذا لم یکن بهذا المعنى یکون غافلاً، و الغافلون قد وصفهم اللّه فقال: (إِنْ هُمْ إِلاَّ کَالاَنعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِیلاً)(40)، و قال: (أُولَئِکَ هُمُ الْغَافِلُونَ)(41)»(42)
و أدناها قصد الثواب و الخوف من العقاب ـ کما أشرنا إلیه ـ، فانّ أکثر الناس ـ لألفهم بالمحسوسات – یتعذّر علیهم الوصول إلى أعلى الدرجات، فلایعرفون منه ـ تعالى ـ إلّا المرجوّ و المخوّف؛ فلو کلّفوا بذلک عموماً کان تکلیفاً بما لایطاق، لعدم إمکان حصولها إلّا بعد قطع الشهوات و قمعها و الإعراض عن الدنیا بالکلّیّة و الإقبال إلى اللّه و حبّه و أنسه ـ المتفرّعین على کمال معرفته ـ. و حصولها لعامّة الناس غیر ممکنٍ، و لو کلّفوا بذلک فسدت المعایش و بطل النظام.
و المراد من الإخلاص المشروط فی صحّة النیّة المشروطة فی العبادة أن لاتکون مشوبةً بحظوظ الدنیا و الأغراض النفسانیّة دون الحظوظ الأخرویّة ـ و إن کانت ممّا یشابهها ـ.
و لو کان ذلک مفسداً للعبادة بطل الوعد و الوعید و الترغیب و الترهیب بالجنّة و النار ـ کما ذکرناه لک ـ.
<و المفهوم من کلام القائلین ببطلان العبادة بقصد تحصیل الثواب أو دفع العقاب الحکم بفسادها و إن انضمّ إلیه قصد وجه اللّه ـ سبحانه ـ. أمّا بقیّة الضمائم اللازمة للعبادة ـ کالخلاص من النفقة بعتق العبد فی الکفّارة و الحمیّة بالصوم و التبرّد فی الوضوء و أمثال ذلک ـ فالظاهر انّ قصدها عندهم مفسدٌ أیضاً بالطریق الأولى.
و أمّا القائلون بعدم الفساد بقصد الثواب و دفع العقاب فقد اختلفوا فی الإفساد بهذه الضمائم، فأکثرهم على عدمه ـ و به قطع الشیخ فی المبسوط(43) و المحقّق فی المعتبر(44) و العلّامة فی التحریر(45) و المنتهى(46) ـ، لأنّها لازمة الحصول ـ قُصدت أو لم تُقصد ـ، فلایضرّ قصدها؛
و فیه: انّ لزوم حصولها لایستلزم صحّة قصد حصولها.
و المتأخّرون من أصحابنا حکموا بفساد العبادة بقصدها ـ و هو مذهب العلّامة فی النهایة(47) و القواعد(48) و ولده فخرالمحقّقین فی الشرح(49) و الشهید فی البیان(50) ـ، لفوات الإخلاص. قال شیخنا البهائیّ: «و هو الأصحّ»(51) -(52)
و استقرب بعض علمائنا المتأخّرین القول بالتفصیل، و هو: انّ العبادة إنْ کانت هی المقصودة بالذات و الضمیمة مقصودةً تبعاً صحّت، و إن انعکس الأمر أو تساویا بطلت(53)>(54)
و أمّا ضمیمة الریاء فالظاهر انّه لاخلاف فی بطلان العبادة بها ـ خلافاً للمرتضى(55)
رحمه اللّه، کما عرفت ـ.
1) راجع: «بحار الأنوار» ج 64 ص 121. و انظر أیضاً: «الکافی» ج 8 ص 177 الحدیث 197،«من لایحضره الفقیه» ج 4 ص 380 الحدیث 5821، «مشکاة الأنوار» ص 260.
2) لم أعثر علیه فی مصادرنا الروائیّة، و أورده العلّامة النراقی، راجع: «جامع السعادات» ج 1ص 57.
3) لم أعثر علیه فی طرقنا، و راجع: «إتحاف السادة المتّقین» ج 7 ص 332، «الفوائد المجموعة»ص 221، «تنزیه الشریعة» ج 1 ص 204.
4) القطعة هی تحریر کلام النراقی، راجع: «جامع السعادات» ج 1 ص 57.
5) إشارةٌ إلى شذوذ الأوّل و عدم وجدان الثانی فی طرقنا.
6) کریمة 9 الشمس.
7) راجع: «مستدرک الوسائل» ج 11 ص 187 الحدیث 12701، «بحار الأنوار» ج 16 ص210، «مکارم الأخلاق» ص 8.
8) لم أعثر علیه إلّا فی «إتحاف السادة المتّقین» ج 7 ص 332.
9) راجع: «جامع السعادات» ج 1 ص 58.
10) کریمة 10 الشمس.
11) کما اختاره المحقّق الداماد، راجع: «شرح الصحیفة» ص 200.
12) کما قال السیورى: «قولنا الإیمان غیر قابلةٍ للزیادة و النقصان…»، راجع: «اللوامع الإلهیّة»ص 440. و انظر: «الاقتصاد فی الاعتقاد» ص 225، «أصول الدین» للبغدادی ص 252،للبزدوی ص 153.
13) راجع: «الکافی» ج 2 ص 51 الحدیث 2، «بحار الأنوار» ج 68 ص 136. و انظر: «العددالقویّة» ص 299.
14) المصدر: تعریف النیّة.
15) هیهنا حذف المصنّف قطعةً من المصدر.
16) کما حکاه العلّامة البهائی، راجع: «الأربعون حدیثاً» ص 446.
17) قارن: «ریاض السالکین» ج 3 ص 279.
18) المصدر: الفاضل.
19) و عن العلّامة البهائی: «قال بعض علمائنا: لو کلّفنا اللّه ـ تعالى ـ بایقاع الفعل المعیّن من دونالنیّة لکان تکلیفاً بما لایطاق»، راجع: «مفتاح الفلاح» ص 47.
20) المصدر: الإخلاص.
21) المصدر: للنعم.
22) هذا القسم لم یرد فی المطبوع من المصدر.
23) بحار الأنوار: من نارک.
24) راجع: «بحار الأنوار» ج 41 ص 14، «عوالی اللئالی» ج 2 ص 11 الحدیث 18، «القصص» ـ للجزائری ـ ص 211، «نهج الحقّ» ص 248.
25) المصدر: دفع.
26) المصدر: الزاهد.
27) قارن: «نور الأنوار» ص 119.
28) حیث قال: «و أمّا غایة الثواب و العقاب فقد قطع الأصحاب بکون العبادة فاسدةً بقصدها»،راجع: «القواعد و الفوائد» ج 1 ص 77.
29) قال: «انّ المتکلّمین اتّفقوا على أنّ من عبد و دعا لأجل الخوف من العقاب و الطمع فی الثواب لم تصحّ عبادته»، راجع: «التفسیر الکبیر» ج 14 ص 134.
30) راجع: نفس المصدر ج 1 ص 250.
31) کریمة 90 الأنبیاء.
32) کریمة 56 الأعراف.
33) راجع: «الکافی» ج 2 ص 84 الحدیث 5، و انظر أیضاً: «بحار الأنوار» ج 67 ص 336.
34) المصدر: ـ للعقاب.
35) راجع: «الأربعون حدیثاً» ص 444، مع تغییرٍ فی بعض الألفاظ.
36) قارن: «ریاض السالکین» ج 3 ص 286.
37) کما حکى فی «البحار» عن «الذکرى» انّه قال: «و ظاهر المرتضى الصحّة بمعنى عدم الإعادة،لابمعنى حصول الثواب»، راجع: «بحار الأنوار» ج70 ص 194.
38) لم أعثر علیه، و قریبٌ منه: «بعبادتنا عبد اللّه و لولا نحن ما عبد اللّه»، راجع: «الکافی» ج 1ص 144 الحدیث 5.
39) کریمة 28 الکهف.
40) کریمة 44 الفرقان.
41) کریمتان 179 الأعراف / 108 النحل.
42) راجع: «مصباح الشریعة» ص 18.
43) راجع: «المبسوط» ج 1 ص 19.
44) راجع: «المعتبر» ج 1 ص 140.
45) راجع: «تحریر الأحکام الشرعیّة» ج 1 ص 9.
46) راجع: «منتهى المطلب» ج 1 ص 56.
47) راجع: «نهایة الإحکام» ج 1 ص 33.
48) راجع: «قواعد الأحکام» ج 1 ص 10.
49) راجع: «إیضاح الفوائد» ج 1 ص 36.
50) راجع: «البیان» ص 7.
51) راجع: «الأربعین» ص 445.
52) و انظر أیضاً: «بحار الأنوار» ج 67 ص 236.
53) هذا قول الشهید الأوّل، راجع: «القواعد و الفوائد» ج 1 ص 79.
54) قارن: «ریاض السالکین» ج 3 ص 287.
55) مضى منّا آنفاً التعلیق على قوله هذا، و انظر: «بحار الأنوار» ج 70 ص 194.