ربما یذهل القارئ، باندفاع الجماهیر أفواجا أفواجا، الی أرض طیبة (المدینة المنورة) للتلمذة علی ید الامام جعفر الصادق علیهالسلام، فقد کان مسجد الرسول صلی الله علیه و آله و سلم یغص بالطلاب حتی قد لا یجد أحدهم مکانا، و یذهل من سعة صدره علیهالسلام لأربعة آلاف تلمیذ، کل یحاول أن یختص به بمفرده، و یسأله مفتخرا علی أقرانه، و لم نقرأ أو نسمع ان الامام قد اعتذر من أحدهم لعدم الوقت الکافی لدیه، فکیف کان یقسم أوقاته حتی أن بیته کان مأوی للعلماء، منفردین به استیضاحا لأحکامهم، و حلا لمشاکلهم، فکان فی زرعه أقوی من المثل الذی ضربه الله عزوجل فی کتابه، «کمثل حبة أنبتت سبع سنابل فی کل سنبلة مائة حبة، و الله یضاعف لمن یشاء»(1)
لقد أجمع العلماء أن رواته و تلامذته علیهالسلام أربعة آلاف، و استدرک بعضهم فعدهم أکثر من ذلک، بل رووا أن الثقات منهم أربعة آلاف، أما الذین انضووا تحت لواء علمه کذبا وزورا فلا یمکن احصاؤهم.
قال الشیخ المفید فی الارشاد «ان أصحاب الحدیث قد جمعوا الرواة عن الصادق علیهالسلام من الثقات علی اختلافهم فی الآراء و المقالات فکانوا أربعة آلاف».
و قد اعترف العالم الاسلامی أن علماء المذاهب الاسلامیة سواء کان منها المنقرضة أو الخمسة التی علیها المعول فی عصرنا الحاضر، مدینة للامام الصادق علیهالسلام فی الرجوع الیه بکثیر من أحادیثها.
و العجب الذی لا ینقضی ما بقی الدهر، أن رؤساء مذاهب العامة من
المالکیة الی الحنفیة و غیرهم یفتخرون بأنهم تتلمذوا علی ید الامام جعفر الصادق علیهالسلام أو من اغترف من علمه و أنه السباق فی علومه أجمع، فلم لا توحد المذاهب الاسلامیة، و ینضووا فعلا جمیعا تحت لوائه علیهالسلام و تسیر الأمة الاسلامیة فی مسیرته علی خط خاتم الأنبیاء محمد صلی الله علیه و آله و سلم و یستقون من المعین الذی لا ینضب، و السلسبیل الذی لا یصدعون عنه و لا ینزفون، و یصبح المسلمون عندئذ شوکة فی أعین أعداء الدین، تقض مضاجعهم، و تهد بنیانهم؟!.
فأبو حنیفة النعمان بن جعفر قال: «لولا السنتان لهلک النعمان»(2)، و قال أبوعبدالله المحدث. «ان أباحنیفة کان من تلامذته»(3) و کذا قال الشبلنجی فی نور الأبصار، و ابنالصباغ فی الفصول و غیرهم.
و أما مالک بن أنس (امام المذهب المالکی المتوفی سنة 179، فیذکر المؤرخون ان الامام جعفر الصادق علیهالسلام کان من شیوخ مالک(4)، و سأل سیف الدولة عبدالحمید المالکی قاضی الکوفة عن مالک فوصفه و قال: کان جربند الصادق (الربیب) قال: و کان مالک کثیرا ما یدعی سماعه، و ربما قال: حدثنی الثقة بعینه جعفر بن محمد، و أخذه عن الصادق علیهالسلام معلوم مشهور و أشار الی ذلک النووی فی التهذیب، و الشبلنجی فی نور الأبصار،
و السبط فی التذکرة، و الشافعی فی المطالب و غیرهم(5)
و قال ابن شهرآشوب فی المناقب قال فی الحلیة لأبی نعیم روی عنه مالک و الشافعی و الحسن بن صالح و أبوأیوب السجستانی و عمرو بن دینار، و أحمد بن حنبل(6)
أما ابنحجر فقال: روی عنه الأئمة الأکابر کیحیی بن سعید و ابنجریج و مالک و السفیانیین و أبیحنیفة و شعبة و أیوب السختیانی(7)
لقد کان مجدا لمالک أن یکون أکبر أشیاخ الشافعی، و مجدا للشافعی أن یکون أکبر أساتذة ابنحنبل، و مجدا للتلمیذین أن یتلمذا لشیخیهما هذین، ان التلمذة للصادق علیهالسلام قد سربلت بالمجد فقه المذاهب الأربعة لأهل السنة(8)
و یذکر محمد کامل حسین فی مقدمة الموطأ لامام المذهب المالکی «یذکر المؤرخون أن جعفر الصادق کان من شیوخ مالک، و کان جعفر من علماء المدینة المعروفین بالعلم و الدین»(9)
و أما الشافعی محمد بن ادریس بن العباس بن عثمان بن شافع، ولد سنة 150 و توفی سنة 198 ه. فهو من تلامذة مالک، قال الشافعی: لیس أحد أمن علی فی دین الله من مالک(10)
و أما امام الحنابلة أحمد بن حنبل فقد کان من تلامذة الشافعی(11) ولد سنة 164 ه توفی 241 ه.
هذا غیر أئمة المذاهب المنقرضة مما لا حاجة لذکرها.
و بعد أن علمنا رجوع أئمة المذاهب الأربعة الی مدرسة الامام الصادق و رجوعه علیهالسلام الی مدرسة آبائه علیهمالسلام الی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فلم التعصب الأعمی و الاستقاء من الجدول بدل النهر؟!!
هذا الی أن شیخ الأزهر شلتوت – أفتی بجواز الرجوع و تقلید مذهب الامامیة الاثنی عشریة و السیر علی طریقتهم دون حرج أو اشکال، فانه أحد المراجع و المذاهب الاسلامیة التی تبرئ الذمة بالرجوع الیها.
فقال ما نصه: ان مذهب الجعفریة المعروف بمذهب الشیعة الامامیة الاثنا عشریة، مذهب یجوز التعبد به شرعا، کسائر مذاهب أهل السنة، فینبغی للمسلمین أن یعرفوا ذلک، و أن یتخلصوا من العصبیة بغیر الحق لمذاهب معینة، فما کان دین الله و ما کانت شریعته بتابعة لمذهب، أو مقصورة علی مذهب، فالکل مجتهدون مقبولون عندالله تعالی یجوز لمن لیس أهلا للنظر و الاجتهاد تقلیدهم و العمل بما یقرونه فی فقههم، و لا فرق فی ذلک بین العبادات و المعاملات(12)
نعم فجمیع الفقهاء یتحرون الروایة من الرواة الثقات الذین رووا مباشرة عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم کالصحابة، أو الذین سمعوا بالواسطة کالتابعین، فعلی أی حال الجمیع یدور حول قطب الرحی و هو الرسول صلی الله علیه و آله و سلم للنیل من شریعة السماء من أقرب مصدر موثوق.
و لنفترض أن الامام الصادق أو الباقر علیهماالسلام علی أقل تقدیر هم من الثقات، و اذا ادعی بعضهم أن الأئمة علیهمالسلام یخبرون عن أنفسهم لا عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، فنقول ان مذاهب السنة کثیرا ما یعتمدون علی الرأی أو القیاس أو الاستحسان أو المصالح المرسلة(13)، و یعتبرونها احدی المدارک مع فقدان الدلیل، فلنفترض أن أئمة أهل البیت علیهمالسلام – علی حد الزعم – قد أخذوا بآرائهم فما المشکلة فی ذلک، ما داموا یجیزون ذلک؟!!.
1) سورة البقرة / 261.
2) أما أبوحنیفة فقال فی میزان الاعتدال: ضعفه النسائی من جهة حفظه و ابنعدی و آخرون، و فی تاریخ بغداد استوفی ترجمته فی حوالی 100 صفحة و ذکر کلام الفریقین معدلیه و مضعفیه، ج 4 ص / 265، و قال عنه الجصاص: له فتاوی عجیبة. و قال أبوحامد محمد بن محمد الغزالی الشافعی: فاما أبوحنیفة فقد قلب الشریعة ظهرا لبطن. و قال فیه ابنالجوزی الحنبلی: اتفق الکل علی الطعن فیه، أما بعقیدته أو حفظه أو رأیه معجم الرجال ج 19 / 164.
3) الامام الصادق و المذاهب الأربعة ج 1 / 70 نقلا عن التحفة الاثنی عشریة ص 8 الامام الصادق للمظفر ج 1 / 133.
4) وسائل الشیعة ج 1 / 51 أعیان الشیعة ج 1 / 667.
5) نفس المصدر معجم رجال الحدیث ج 14 / 159.
6) المناقب ج 4 / 247.
7) الصواعق المحرقة ص 201.
8) الامام جعفر الصادق للجندی ص 158.
9) موطأ ابنمالک ج 1 / اک.
10) الموطأ ج 1 / ط – الامام الصادق و المذاهب الأربعة ج 1 / 168.
11) شرح نهجالبلاغة لابن أبیالحدید ج / 18 الموطأ لمالک بن أنس ج 1 / ط – بک.
12) أسبوع الوحدة الاسلامیة ص 29 (اصدار المرکز الثقافی للجمهوریة الاسلامیة الایرانیة بدمشق).
13) قال العلامة محمدتقی الحکیم فی کتابه الأصول العامة للفقه المقارن: الذی علیه أئمة المذاهب السنیة و غیرهم من أعلام السنة هو جواز العمل بالقیاس و وقع التعبد به شرعا، و کذا جوازه عقلا ص 321.أما الاستحسان فقد نفی جواز العمل به الشافعی و قال: «من استحسن فقد شرع» أما مالک فتبناه و قال: الاستحسان تسعة أعشار العلم. نفس المصدر ص 363.أما المصالح المرسلة، فمع عدم وجود نص شرعی یراعی المصلحة فی المحافظة علی الشرع، فیعتمد عندئذ علی العقل أو علی النصوص العامة فی الشرع و یستنبط حکم، و قد ذهب مالک و أحمد و من تابعهما الی أن الاستصلاح طریق شرعی لاستنباط الحکم فیما لا نص فیه و لا اجماع، و غالی فیها الطوفی و هو من علماء الحنابلة فاعتبرها الدلیل الشرعی الأساس، و قدمها علی النص عند التعارض، بینما قال الشافعی «الی أنه لا استنباط بالاستطلاح و من استصلح فقد شرع، و هو متابعة للهوی».أما الشیعة «فتقول ما من واقعة الا و لله فیها حکم» فمع عمد وجود نص أو أماره، یرجع الی قواعد وضعها الأئمة علیهمالسلام من الاستصحاب أو البراءة أو الاشتغال…