جستجو
این کادر جستجو را ببندید.

بین المد و الجزر

زمان مطالعه: 3 دقیقه

لقد غالی بعض کتاب المناقب غلواً أخرجهم من الاعتدال فی القول و التثبیت فی النقل، فتقولوا و افتعلوا، و ذهبوا الی أبعد حد من المدح و الثناء، و جاءوا بأمور متنوعة فی مناقبه و فضائله حتی وضع بعضهم کتاباً موضوعاً فی مناقبه. و للبیان نعطی صورة مختصرة عن تلک الادعاءات الکاذبة و للتفصیل محل آخر.

فمن أظرف ما ینقل من کرامات أبی‏حنیفة قضیة الدهری الذی ورد بغداد لیناظر علماء الاسلام أیام الدولة العباسیة، و أنهم عجزوا عن جوابه و لم یبق إلا حماد بن أبی‏سلیمان، و معه تلمیذه أبوحنیفة، و لهذه الأسطورة صور فی النقل:

منها: أن دهریاً من الروم ناظر علماء الاسلام فأفحمهم إلا حماداً.

و لم یأت أحد بما فیه مقنع، و الامام إذ ذاک کان صبیاً فخاف حماد لأنه لو ألزمه یهون أمر الاسلام. فرأی رؤیا لا حاجة لنا بنقلها.(1)

فذهب أبوحنیفة مع أستاذه الی الجامع. و صعد الدهری المنبر. و طلب الخصم، فحضر أبوحنیفة و هو صبی، فاستحقره، فقال أبوحنیفة: دع هذا و هات کلامک، فتعجب الدهری من جرأته فسأله الدهری بأسئلة فأجاب عنها فقال أبوحنیفة: هذه الأسئلة و أنت علی المنبر و أنا أجبت عنها و الآن انزل الی الأرض و أنا أصعد المنبر، فنزل و صعد أبوحنیفة و قال: إذا کان علی المنبر مشبه مثلک أنزله، و إذا کان علی الأرض موحد مثلی رفعه، «کل یوم هو فی شأن» فبهت الدهری و قتلوه.

هکذا دون بعض أصحاب المناقب هذه الأسطورة و لم یلتفتوا الی المؤاخذات فانهم ذکروا أن هذه القصة قد وقعت فی بغداد، و لا یتأتی ذلک، فان بغداد مصرت فی زمن المنصور سنة 145 ه فیکون عمر أبی‏حنیفة فی هذه القصة 65 سنة فکیف کان عمره سبع سنین؟ و ان وفاة استاذه حماد بن ابی‏سلیمان سنة 120 ه بالاتفاق، أی قبل تمصیر بغداد بخمس و عشرین سنة. مع أن أباحنیفة تتلمذ علی ید حماد، بعد أن قضی شطراً من عمره فی بیع الخز، و اشتغل مدة بعلم الکلام، و بعد ذلک التحق بحلقة حماد.

و قد ذکرت هذه الأسطورة فی عدة کتب و علق بعضهم علیها بقوله: هذا حال الامام فی صغره فکیف فی کبره.(2)

أما الصورة التی ینقلها الخوارزمی فهی:

إن ملک الروم بعث مالا عظیماً بید أمین الی بغداد، و قال: سلهم عن ثلاث مسائل، فان هم أجابوا فادفع الیهم المال، و إلا فارجع به، فلما قدم بغداد جمع العلماء و صعد الرومی المنبر و قال: إن أجبتم عن اسئلتی أعطیتکم المال، و إلا رجعت به، فسألهم و سکت القوم و فیهم أبوحنیفة، و هو یومئذ صبی، فقال لأبیه: یا أبتا أنا أجیبه، فأسکته أبوه، و قام أبوحنیفة و استأذن الخلیفة فی الجواب و صعد أبو حنیفة المنبر. الخ. هکذا أوردوا هذه الأسطورة و اختلفوا بطرق نقلها.

و من أظرف ما نقلوه ما یرویه صاحب مفتاح السعادة أن ثابتاً توفی‏

و تزوج الامام الصادق علیه‏السلام أم الامام أبی‏حنیفة، و کان أبوحنیفة رحمه الله صغیراً و تربی فی حجر الامام جعفر الصادق و أخذ علومه منه. قال مؤلفه: و هذه إن ثبتت فهی منقبة لأبی حنیفة، و قد أید ذلک قاضی زاده شریف مخدوم فقال: و بعد وفاة الثابت، أی والد أبی‏حنیفة، تزوج أم الامام رحمه الله الامام جعفر الصادق و ربی أبوحنیفة فی حجره.(3)

و کیف یتأتی ذلک و یستقیم و إن أباحنیفة کان صغیراً و تربی فی حجر الامام الصادق و قد کانت ولادة أبی‏حنیفة سنة 80 ه و ولادة الصادق سنة 83 ه؟ فلا یصح هذا و إن أبوا إلا تصحیح هذه المناقب فالله قادر علی کل شی‏ء، و لا یستبعد أن یکون المد و الجزر فی الأعمار کما هو فی البحار.

ولنکتف بما ذکرناه، و لا نتعرض لتلک الادعاءات الکاذبة فقد ادعوا أن التوراة بشرت به، و أن صفته مکتوبة فیها، و أن الله ناداه: یا أباحنیفة إنی قد غرفت لک و لمن هو علی مذهبک الی یوم القیامة، و أن النبی غبط داود لأن فی أمته لقمان فبشره جبرائیل بأبی حنیفة، و ان حکمته أعظم من حکمة لقمان، و ان الخضر درس علیه خمس سنین فی حیاته و أکمل دراسته علیه و هو فی قبره، الی کثیر من تلک السفاسف و هی من الأمور التی لا تحتاج الی مناقشة، و إنما هی ولیدة عصر احتدام التعصب للمذاهب، فذهب کل الی تکوین شخصیة إمامه طبقاً لأهدافه، و قد ألفوا کتباً طافحة بالثناء الأجوف و المدح الکاذب.

و قد کان جماعة یضعون الأحادیث و المناقب لنصرة مذهب أبی‏حنیفة امثال أحمد الحمانی المتوفی سنة 302 ه و أسد بن عمر البجلی القاضی. المتوفی سنة 190 ه، و اباء بن جعفر الکذاب المعروف، و قد حرفه بعضهم عند نقله عنه بابان لیخفی حاله، و قد خرجوا فی أبی‏حنیفة أحادیث لا أصل لها(4) و قد وضع أباء علیه اکثر من ثلاثمائة حدیث، و ذکر أکثرها الحارثی فی مسند أبی‏حنیفة؛ و غیر هؤلاء کثیر لا یسع الوقت لذکرهم من دعتهم عصبیتهم الی تکوین شخصیة أبی‏حنیفة طبقاً لرغباتهم، و معاکسة للوجدان و مخالفة للحق، و بذلک صعب الوصول الی معرفة شخصیة أبی‏حنیفة.

فلنترک مناقشة تلک المناقب فانا لا نتعرض إلا لما له أهمیة فی الموضوع. فمن ذلک قولهم: إن أباحنیفة سمع جماعة من الصحابة و دونوا له أحادیث ذکرت فی مسانیده فلننظر لصحة هذه الدعوی.


1) مفتاح السعادة ج 2 ص 201.

2) مفتاح السعادة ج 2 ص 201، و شرح وصیة ابی‏حنیفة المخطوط بمکتبة الامام کاشف الغطاء.

3) جامع الرموز ج 1 ص 2.

4) تهذیب التهذیب ج 1 ص 449.