بسم اللّه الرحمن الرحیم
و به نستعین
الحمد للّه الّذی لایحتاج إلى إنباء المتظلّمین و لایخفى علیه اعتداء الظالمین؛ و الصلاة و السلام على محمّدٍ هو ناصر المظلومین و على آله و عترته الّذین هم غوث الملهوفین.
و بعد؛ فهذه اللمعة الرابعة عشرة من لوامع الأنوار العرشیّة فی شرح صحیفة سیّد العابدین، إملاء المحتاج إلى الناصر و المعین فی کلّ حینٍ محمّد باقر بن السیّد محمّد ـ عفى اللّه ذنوبهما یوم الدین ـ.
وَ کَانَ مِنْ دُعَائِهِ ـ عَلَیْهِ السَّلاَمُ ـ إِذَا اعْتُدِیَ عَلَیْهِ أَوْ رَأَى مِنَ الظَّالِمِینَ مَا لاَ یُحِبُّ
«اعتدى» اعتداءً، و تعدّى تعدیّاً: ظلمه و تجاوز الحدّ؛ قال اللّه ـ تعالى ـ (لاَیُحِبُّ آلْمُعتَدِینَ)(1) أی: المجاوزین لما أمروا به. و «اعتُدِیَ علیه» ـ بصیغة المجهول ـ أی: ظلم علیه، أو رأى من الظالمین ما لایحبّ ـ: من مخالفة السنّة أو الظلم على شیعتهم ـ. <و قوله
ـ تعالى ـ: (فَأعْتَدُوا عَلَیهِ بِمِثلِ مَا اعْتَدَى عَلَیکُمْ)(2) من باب المشاکلة، سمّی جزاء الاعتداء اعتداءً ـ کما سمّی جزاء السیّئة سیّئةً فی قوله تعالى: (وَ جَزَاءُ سَیِّئَةٍ سَیِّئَةٌ مِثْلُهَا)(3)
ـ لوقوعه فی صحبته، و إلّا فجزاء الاعتداء و السیّئة لایکون اعتداءً و سیّئةً>(4) و هذا
النحو هو المعنى بقوله: (إِنَّ اللَّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدلِ وَ الاِحسَانِ)(5)، فانّ العدل هو المساوات فی المکافات، إن خیراً فخیراً و إن شراً فشرّآ. و الإحسان أن یقابل الخیر بأکثر منه، و الشرّ بأقلّ منه ـ على ما قیل ـ.
و «الظلم»، قیل: «هو التصرّف فی حقّ الغیر»؛
و قیل: «هو مجاوزة الحدّ»(6)
و قال الراغب: «الظلم یقال فی مجاوزة الحقّ الّذی یجری مجرى نقطة الدائرة، سواءٌ قلّ أو کثر؛ و لذلک قیل لآدم – علیه السلام ـ فی تعدّیه: «ظالمٌ» و فی إبلیس: «ظالمٌ» و إن کان بین الظلمین بونٌ بعیدٌ!»(7)؛ انتهى.
<و المستفادّ من کلام أهل اللغة و کثیرٍ من العلماء هو: وضع الشیء فی غیر موضعه المختصّ به، إمّا بنقصانٍ أو بزیاةٍ، و إمّا بعدولٍ عن وقته أو مکانه.
و عن بعض الحکماء: «إنّ الظلم ثلاثةٌ:
ظلمٌ بین الإنسان و بین اللّه، و أعظمه الکفر و الشرک و النفاق، و لذلک قال: (إِنَّ الشِّرکَ لَظُلْمٌ عَظِیمٌ)(8)؛
و ظلمٌ بینه و بین الناس، کما قال ـ سبحانه ـ: (إِنَّمَا السَّبِیلُ عَلَى الَّذِینَ یَظلِمُونَ
النَّاسَ)(9)؛
و ظلمٌ بینه و بین نفسه، و إیّاه قصد بقوله: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفسِهِ)(10)
و کلّ الثلاثة فی الحقیقة ظلمٌ للنفس، فإنّ الظالم أبداً مبتدىءٌ بنفسه فی الظلم!>(11)
<ثمّ اعلم! أنّ الظاهر من المعتدین و «الظالمین»: هم مخالفونا فی المذهب، و حینئذٍ فیدلّ على جواز الدعاء علیهم، بل على استحبابه اقتداءً به - علیه السلام ـ ؛ و أمّا المعتدی و الظالم من الشیعة ففی جواز الدعاء علیه بهذا و أمثاله اشکالٌ، لقوله - علیه السلام ـ : «أحسن إلى من أساء إلیک»(12)؛ بل ینبغی الدعاء لهم بالهدایة و الارشاد و دفع شرورهم عن المسلمین ـ کما یدلّ علیه الأحادیث و بعض فقرات هذا الدعاء الشریف ـ>(13)
یَا مَنْ لاَ یَخْفَى عَلَیْهِ أَنْبَاءُ الْمُتَظَلِّمِینَ، وَ یَا مَنْ لاَیَحْتَاجُ فِی قَصَصِهِمْ إِلَى شَهَادَاتِ الشَّاهِدِینَ.
«الأنباء» ـ بتقدیم النون على الباء ـ: جمع نَبَأ ـ محرّکةً مهموزةًـ کخبر و أخبار وزناً و معنىً.
<و «التظلّم»: شکوى المظلوم عند من ینتصف له من ظالمه>(14)
و «القَصَص» بالفتح: الخبر و الحدیث، قال ـ تعالى ـ: (وَ قَصَّ عَلَیهِ الْقَصَصَ)(15)، و
قال: (أَحسَنَ الْقَصَصِ)؛ و بالکسر: جمع قصّة. و المضبوط فی النسخ الفتح. و قیل فی «قصصهم»: «أی: فی تتبّع أحوالهم، مأخوذٌ من قصّ أثره، أی: تتبّع أثره؛ قال ـ تعالى ـ :
(فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً)(16) و الظاهر هو المعنى الأوّل.
<و «الشهادة» لغةً: اسمٌ من المشاهدة، و هی الاطّلاع على الشیء عیاناً؛ و شرعاً: الإخبار عن عیانٍ بلفظ «الشهادة» فی محلّ الحکم(17)
و إنّما لم یحتج ـ تعالى ـ إلى شهادة الشاهدین ـ کالمخلوقین ـ، لأنّه بکلّ شیءٍ علیمٌ.
وَ یَا مَنْ قَرُبَتْ نُصْرَتُهُ مِنَ الْمَظْلُومِینَ، وَ یَا مَنْ بَعُدَ عَوْنُهُ عَنِ الظَّالِمِینَ.
«النُصرة» ـ بالضمّ ـ: اسمٌ من نَصَرَه یَنصُرُه على عدوّه نَصْراً ـ من باب قتل ـ: إذا أعانه و قوّاه علیه>(18)
و «العون»: النصرة.
و المراد بـ «المظلومین»: کلّ مظلومٍ و لو کان کافراً؛ و کذا «الظالمین» و لو کان مؤمناً، لأنّ «الألف و اللام» إذا دخلت على الجمع أفادت الاستغراق؛ ففی الحدیث عن أبی عبداللّه – علیه السلام ـ قال: «إنّ اللّه ـ تعالى ـ أوحى إلى نبیٍّ من الأنبیاء فی مملکة جبّارٍ أن: إئت هذا الجبّار فقل له: إنّی لم استعملک على سفک الدماء و اتّخاذ الأموال!، و إنّما استعملتک لتکفّ عنّی أصوات المظلومین، فانّی لن أدع ظلامتهم و إن کانوا کفّاراً»(19)؛
و عنه – علیه السلام ـ قال: «کان أبی یقول: اتّقوا الظلم!، فانّ دعوة المظلوم تصعد إلى السماء»(20)؛
و عنه – علیه السلام ـ: «من عذر ظالماً بظلمه سلّط اللّه علیه من یظلمه، فإن دعا لم یستجب له و لم یأجره اللّه على ظلامته»(21)
و الأخبار فی هذا المعنى کثیرةٌ.
قَدْ عَلِمْتَ ـ یَا إِلَهِی! ـ مَا نَالَنِی مِنْ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ مِمَّا حَظَرْتَ، وَ انْتَهَکَهُ مِنِّی مِمَّا حَجَزْتَ عَلَیْهِ، بَطَراً فِی نِعْمَتِکَ عِنْدَهُ وَ اغْتِرَاراً بِنَکِیرِکَ عَلَیْهِ.
«قد» للتحقیق، أی: قد تحقّق علمک.
و «یا إلهی»: منادى له بقوله: «یا من لایخفى -… إلى آخره ـ». و یحتمل أن یکون حالاً عن المفعول به؛ کأنّه قال: «أدعوه حال کونه قد علم»، ففی الکلام التفاتٌ؛ و یحتمل الاستیناف کأنّ اللّه ـ تعالى ـ یقول: «لم تنادینی؟»، أجاب: «لأنّک قد علمت یا إلهی» ـ على ما قیل ـ.
و «نالنی» أی: أصابنی، یقال: ناله یناله نیلاً: أصابه.
و «فلان بن فلان»: کنایةٌ عن المدعوّ علیه.
و «حَظَره» حَظْراً ـ من باب قتل ـ: منعه، و هو بیانٌ لـ «ما» فی «ما نالنی»؛ یعنی: ما هو حرامٌ بحسب الشرع علیه ـ و هو ایذاء المؤمن ـ و قد صدر منه بالنسبة إلیَّ.
و «الانتهاک»: المبالغة فی کلّ شیءٍ، أی: ما بالغ فیه منّی حرم علیه(22)
و «الحجز» ـ بالحاء المهملة و الزاء المعجمة، أو المهملة ـ کلیهما بمعنى: المنع، و قد وردت الروایة فی الدعاء بالوجهین(23)
و «البطر»: الطغیان بالنعمة، أو قلّة احتمالها و کراهة الشیء من غیر أن یستحقّ الکراهة.
و «الاغترار»: افتعالٌ من الغِرّة ـ بالکسر ـ بمعنى: الغفلة و «الباء» بمعنى: عن؛ أو بمعنى: الاجتراء و التجاسر و «الباء» بمعنى: على ـ و قد فسّر بهما(24) قوله عزّ و جلّ: (مَا غَرَّکَ بِرَبِّکَ الْکَرِیمِ)(25) ـ(26). و یحتمل أن یکون «الباء» بمعناها للسببیّة، و یکون المعنى: إنّ السبب فی غفلته أو جرأته انکارُک علیه، لا من حیث الوجود بل من حیث العدم!. و یؤیّده ما فی بعض النسخ: «بتأخیر انکارک»، و ما فی أخرى: «بتأخیرک»(27)؛ فتدبّر!.
و «النکیر»: فعیلٌ بمعنى الانکار، تقول: أنکرت علیه فعله: إذا نهیته عنه أو عاقبته علیه. و أصل النکیر: الجهل، و هنا کنایةٌ عن تأخیر العقوبة و المعاملة معه معاملة من کان مجهولاً حاله، لأنّه إذا لم ینزل علیه العقوبة فکأنّه ـ تعالى ـ لیس عالماً بحاله!. و لیس هذا إلّا الغرور من ذلک الظالم الّذی أملی، لأنّه یمکن أن یکون من قبیل الاستدراج؛ قال ـ تعالى ـ: (وَ أُمْلِی لَهُم إِنَّ کَیْدِی مَتِینٌ)(28)
اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ خُذْ ظَالِمِی وَ عَدُوِّی عَنْ ظُلْمِی بِقُوَّتِکَ، وَ افْلُلْ حَدَّهُ عَنِّی بِقُدْرَتِکَ، وَ اجْعَلْ لَهُ شُغْلاً فِیما یَلِیهِ، وَ عَجْزاً عَمَّا یُنَاوِیهِ.
أی: أللّهمّ إذا کنت کما ذکرناه ـ من الصفات ـ و کان هو کما ذکرنا ـ من کونه ظالماً ـ فصلّ على محمّدٍ ـ… إلى آخره ـ.
و «خذ»: صیغة أمرٍ من أخذته عنه، أی: حبسته. و أصله من: أخذ الحطام أی: أمسکه.
و «عن ظلمی» متعلّقٌ بـ «خذ»، یتضمّن معنى البدل؛ أی: خذ ظالمی بدلاً عن ظلمی.
و «بقوّتک» متعلّقٌ أیضاً بـ «خذ».
و «افلُلْ حدّه» من الفلول، و هو الکلل الّذی یعرض لحدّ السیف؛ قال الشاعر:
وَ لاَعَیبَ فِیهِمْ غَیرَ أَنَّ سُیُوفَهُمْ++
بِهِنَّ فُلُولٌ مِن قِرَاعِ الْکَتَائِبِ(29)
أی: أکسر شوکته و حدّته، شبّه العدوّ بالسیف الحدید فی الإضرار، و اثبات الحدّة له تخییلٌ، و ذکر الفلل ترشیحٌ.
و «فیما یلیه» أی: فی ما یقربه من محبّیه و قراباته ـ من وَلِیَه یَلِیه بکسرتین وَلْیاً، کفلس ـ، أی: قرِّب منه؛ أو: اجعل شغله فی الأمر الّذی هو متولّیه حتّى لایکون له فرصة ایذائی و أذیّتی ـ من: ولی الأمر یلِیه، بکسرتین أیضاًـ و: ولی البلد ولایةً أی: صار والیاً علیه. فیکون الضمیر فی «یلیه» عائداً إلى «ما» الموصولة المجرورة بـ «فی».
و «العجز»: عدم القدرة عمّا من شأنه أن یقدر.
و «یناویه» إمّا من النوى بمعنى: البُعد؛ أو من: النوء بمعنى: النهوض. و فی التعبیر بصیغة المفاعلة إشعارٌ بأنّ کلّاً من المتعادیین ینهض إلى صاحبه.
<فان قلت: فعلى هذا کان ینبغی أن یقول: «عمن»، لا «عمّا»، لأنّ المناواة و المناهضة للعدواة لاتکون إلّا بین عاقلین!
قلت: هو إمّا بناءً على القول بأنّ «ما» یعمّ العقلاء و غیرهم فی الاستعمال؛ و إمّا بناءً على ما علیه جماعةٌ من المحقّقین من أنّ التفرقة بین «من» و «ما» فی اختصاص الأولى بذوی العلم و الثانیة بغیرهم أو غلبتها إنّما هی إذا أرید الذات، أمّا إذا أرید الوصف فهو بکلمة «ما» دون
«من» بحکم الوضع ـ على ما ذکره الزمخشریّ(30) و السکاکیّ و غیرهما، و إن أنکره قومٌ ـ>(31)
فقوله – علیه السلام ـ: «عجزاً عمّا یناویه» أراد به معنى الوصفیّة، أی: عجزاً عن الموصوف ـ بأیّة صفةٍ کانت ـ یرید مناواته و عداوته ـ من صغیرٍ و کبیرٍ و شریفٍ و وضیعٍ و بعیدٍ و قریبٍ… إلى غیر ذلک ـ.
و لایبعد أن یکون «یناویه» من النیّة، أی: ما ینویه من المعاداة أو الإضرار من الأعادی الظاهریّة و الباطنیّة.
اللَّهُمَّ وَ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ لاَ تُسَوِّغْ لَهُ ظُلْمِی، وَ أَحْسِنْ عَلَیْهِ عَوْنِی، وَ اعْصِمْنِی مِنْ مِثْلِ أَفْعَالِهِ، وَ لاَ تَجْعَلْنِی فِی مِثْلِ حَالِهِ.
قال الفاضل الشارح: «لاتسوّغ له ظلمی، أی: لا تسهّله و تیسّره علیه، من ساغ الشراب و الطعام یسوغ سوغاً ـ من باب قال ـ: سهل مدخله فی الحلق(32) و التسویغ هنا بمعنى التجویز ـ کما فعل بعضهم ـ لاوجه له! لأنّ اللّه ـ تعالى ـ لایجوّز لأحدٍ الظلم حتّى یطلب منه عدم التجویز له»(33)
أقول: و هو فاسدٌ!؛ لأنّ عدم تجویز الظلم لایستلزم تجویز الظلم ـ کما فهمه ـ. و المعنى: و لاتجعل ظلم الظالم علیَّ سائغاً ـ أی: جائزاً ـ، و المقصود: لاتمکّنه من ظلمی.
و قال بعض الأعلام: «و لاتسوّغ له ظلمی، أی: امنعه عن الظلم علیَّ؛ أو: عرّفه بأنّه ظلمٌ حتّى لایتجرّى علیه، لأنّ کثیراً من الظالمین قد أظلّهم الشیطان حتّى أنّه یریهم الظلم على بعض الناس من أعظم العبادات!. کیف لا و قد ذهب الخوارج و من حذا حذوهم إلى أنّ
سبّ علیّ بن أبی طالبٍ – علیه السلام ـ من أعظم العبادات! و قتله من أعظم المثوبات!!، لأنّه کان کافراً فی زعمهم الفاسد حتّى فسّروا «الإنسان» فی قوله(34): (قُتِلَ الاِْنْسَانُ مَا أَکْفَرَهُ)(35) بعلیٍّ – علیه السلام ـ !!؛ أی: ما صیّره کافراً ـ فی نظر من جوّز قتله ـ ؛ و هو من غرائب التفسیر!.
و «أحْسِنْ» من: أَحْسَنَ؛ و فی نسخة شیخنا البهائیّ من: حسن، و لعلّه من سهو القلم. و لایصحّ إلّا بتضمین القول و نحوه»(36)
و «العون» بمعنى: المعونة.
و «علیه» متعلّقٌ بعونی، أی: أعنّی على ظالمی إعانةً حسنةً حتّى لاأتضرّر منه.
و «عَصَمَه» یَعصِمُه عَصْماً ـ من باب ضرب ـ: منعه و وقاه؛ و اعتصمت باللّه: امتنعت به؛ أی: امنعنی و احفظنی من ارتکاب مثل أفعاله ـ من الظلم و الجور ـ معه فی صورة الانتقام منه ـ أو مع غیره ـ حتّى لا أکون مثله مؤذیاً؛ و لاتجعلنی فی مثل حاله ـ من البطر و الاغترار و ظلم العباد و تعاطی العدوان و الفساد ـ کیلا أکون من المنکِرین للمنکَر و الفاعلین له.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ أَعْدِنِی عَلَیْهِ عَدْوَى حَاضِرَةً تَکُونُ مِنْ غَیْظِی بِهِ شِفَاءً، وَ مِنْ حَنَقِی عَلَیْهِ وَفَاءً.
و «أعدِنی» ـ على صیغة الأمر ـ من: أعدى، یقال: استعدى الأمیر على من ظلمه فأعداه، أی: أعانه و نصره؛ فالمعنى: أعنّی مسلّطاً إیّای.
و «العدوى»: اسمٌ تارةً من الاستعداء، و الأخرى من الاعداء؛ فعلى الأوّل معناه: أطلب
المعونة و الانتقام؛ و على الثانی: المعونة نفسها؛ و هی المراد هیهنا.
قیل: «معنى قوله – علیه السلام ـ: عدوى حاضرةً: کما فی قولهم: «فلانٌ عند القاضی و أراد منه عدوى» ـ أی: نصرةً و معونةً على احضار الخصم ـ «فهو یعدیه» أی: یسمع کلامه و یأمر باحضار خصمه له»(37) <و روی: «انّ امرأة ولید بن عقبة استعدت فأعطاها رسول اللّه ـ صلّى اللّه علیه و آله و سلّم ـ هبةً من کوثه کهبة العدوى»، أی: کما یعطی القاضی الخاتم أو الظنیّة لیکون علامةً فی احظار المطلوب»>(38)
«حاضرة» أی: اعانةً لاتأخیر فیها و انتقاماً لامهلة فیه.
و «من» ـ فی قوله: «من غیظی» متعلّقةٌ بـ «شفاء»؛ و فی قوله: «من حنقی» متعلّقةٌ بـ «وفاء».
و «الغیظ»: الغضب الشدید.
و «الشفاء» من: شفى اللّه المریض یشفیه ـ من باب رمى ـ شفاءً أی: أبرء من مرضه، شبّه المرض النفسانیّ و الغضب بالمرض الجسمانیّ؛ و اثبات الشفاء له تخییلٌ.
<و «الحَنَق» ـ محرّکةً و بالحاء المهملة ـ: الغیظ؛ و قیل: «شدّته»، حنق حنقاً من باب تعب.
و «الوفاء» مصدر: وفاه حقّه: إذا أعطاه إیّاه وافیاً>(39) و فی نسخةٍ «حقّی»، أی: و یکون
وافیاً على حقّی؛ یعنی: یکون سبباً لتدارک غضبی.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ عَوِّضْنِی مِنْ ظُلْمِهِ لِی عَفْوَکَ، وَ أَبْدِلْنِی بِسُوءِ صَنِیعِهِ بِی رَحْمَتَکَ، فَکُلُّ مَکْرُوهٍ جَلَلٌ دُونَ سَخَطِکَ، وَ کُلُّ مَرْزِئَةٍ
سَوَاءٌ مَعَ مَوْجِدَتِکَ.
«عوّضته» تعویضاً: إذا أعطیته بدل ما ذهب منه.
و قوله: «لی» متعلّقٌ بـ «ظلمه»؛ و «اللام» للتعدیة؛ و «عفوک» مفعول ثانٍ لـ «عوّضنی»؛ أی: أعطنی عوضاً من ظلمه لی عفوک عن ذنوبی و ترکک معاقبتی علیها.
و «أبدلته» بکذا إبدالاً أی: محیت الأوّل و جعلت الثانی مکانه. و فی بعض النسخ «أبدِله» مکان: «أبدلنی»(40)
و «الصُنع» ـ بالضمّ ـ: مصدر قولک: صنع إلیه معروفاً، و صنع به صنیعاً قبیحاً، أی: فعل ـ کما قال الجوهریّ(41) ـ. أی: أعطنی بدل سوء صنعه بی رحمتک؛ أو المراد طلب الرحمة و الهدایة و التوبة للخصم، أی: أبدل خصمی بدل سوء عمله بی رحمتک. و لا استبعاد فی هذا التوجیه، لأنّ کلّ ظالمٍ فی الحقیقة محسنٌ إلى من ظلمه حیث إنّه حصل له الثواب و المنفعة !، فحقّ على العارف أن یجاذیه بالدعاء الحسن و یسترحم له ـ کما وقع فی کلام أمیرالمؤمنین علیه السلام: «مکافاة المسیء بالاحسان و مقابلة الظلم بالعفو»(42)
و «الفاء» من قوله – علیه السلام ـ: «فکلّ مکروهٍ» للسببیّة.
و «الجلل» ـ من الأضداد ـ: العظمة، و الحقارة، و المراد الثانی(26)؛ أی: لأنّ مع رحمتک کلّ
مکروهٍ ـ غیر غضبک ـ علیَّ هیّنٌ؛ أو «دون» بمعنى: عند، و لایتفاوت محصّل المعنى.
و «مرزئة» فی نسخة الشهید بفتح المیم و سکون الراء المهملة و کسر الزاء المعجمة و فتح
الهمزة، بمعنى: المصیبة(43)؛ و قرء بضمّ المیم و کسر الزاء المعجمة ـ من باب الإفعال ـ من الرُزء ـ بالضمّ ـ بمعنى: النقص(44)
و «سَواء» ـ بالفتح و المدّ، على ما فی النسخ المشهورة ـ أی: سهلةٌ، من قولهم: أرضٌ سَواءٌ أی: مستویةٌ یسهل سلوکها؛ أو بمعنى: المساوات، أی: وجوده و عدمه مساوٍ. و فی نسخة الشهید(45) : «شوى» ـ بالشین المعجمة و الألف المقصورة ـ، أی: یسیرٌ هیّنٌ(46)
و «المَوجِدة» ـ بفتح المیم و کسر الجیم ـ: الغضب، أی: کلّ مصیبةٍ مع ـ أو: فی ـ غضبک وجوده و عدمه على السواء على الأوّل؛ و یسیرٌ هیّنٌ على الثانی. و فی نسخةٍ بدل: «موجدتک»: «مغفرتک».
اللَّهُمَّ فَکَمَا کَرَّهْتَ إِلَیَّ أَنْ أُظْلَمَ فَقِنِی مِنْ أَنْ أَظْلِمَ.
«کرّهت» ـ من باب التفعیل ـ من کرهه: ضدّ أحبّه.
و «أظلم» الأوّل بصیغة المتکلّم المجهول، و الثانی بصیغة المعلوم؛ و فی نسخة ابن ادریس الصیغتان قد وقعتا بالعکس، و لهذا قیل: «إنّ «ما» فی «کما» موصولةٌ و مفعولٌ لکرهت. و «من» بیانیّةٌ؛ یعنی: لمّا کان الظلم سبباً لغضبک فلاتترکنی أن أکون ظالماً کما صرت مظلوماً».
و قیل: «منشأ التوهّم فی الصورتین ـ أی: فی هذه الصورة و فی ما سبق ـ ما بین الظالمیّة و المظلومیّة من التقابل. و إنّما یکون توهّماً لأنّ نفی أحد المتقابلین إنّما یستلزم ثبوت المقابل الآخر إذا کان التقابل بینهما تقابل السلب و الإیجاب، و لیسا کذلک ـ لکونهما وجودیّین ـ، فیکونان متضادّین. و نفی أحدهما لایستلزم ثبوت الآخر، لجواز ارتفاعهما».
و لمّا ظهر من الأدعیّة السابقة المظلومیّة شفّعه بکراهیّةٍ للظالمیّة أیضاً لئلّا یتوهّم انّه یحبّه.
اللَّهُمَّ لاَ أَشْکُو إِلَى أَحَدٍ سِوَاکَ، وَ لاَ أَسْتَعِینُ بِحَاکِمٍ غَیْرِکَ، حَاشَاکَ!.
«أشکو»: صیغة متکلّمٍ من: شکوت فلاناً أشکوه شکواً و شکایةً و شکیّةً: إذا أخبرت عنه بسوء فعله بک؛ و المعنى: لا أشکو من ظالمی. و فی بعض النسخ بعد «أشکو» کتب «الفٌ» ـ کما هو رسم الخطّ فی صیغة الجمع ـ تشبیهاً و تنبیهاً على التکرار لنفی الشکایة إلى غیر اللّه، کما وقع صیغة الجمع نفسها فی بعض المواضع من کلام اللّه ـ تعالى ـ إشارةً إلى التکرار ـ مثل: (رَبِّ ارْجِعُونِ)(47)، (ن وَ الْقَلَمِ وَ مَا یَسطُرُونَ)(48) ـ(49)
و «حاشاک» أی: سبحانک أنزّهک تنزیهاً من أن أستعین بغیرک معک. و قد مرّ تفصیله فی الدعاء الحادی عشر.
فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ صِلْ دُعَائِی بِالاِْجَابَةِ، وَ اقْرِنْ شِکَایَتِی بِالتَّغْیِیرِ.
«وصِلْ دعائی» أی: اجعله متّصلاً بها، من <وَصَلَ الشیء بالشیء وَصْلاً ـ من باب وعد ـ: جعله متّصلاً به>(50)
و «أقرن»: من باب ضرب بهمزة الوصل، و من باب الإفعال بهمزة القطع؛ و المعنى: و اجعل دعائی متّصلاً بالاجابة حتّى لاتکون بینهما فترةٌ، و اجعل شکایتی إلیک مقرونةً بتغییر قدرة الظالم حتّى لایقدر على ظلمی بعد ذلک؛ أو: غیّر شکایتی بحیث یصیر متغیّرةً
من الوجود إلى العدم بأن لاتجعلنی مظلوماً حتّى أشکو.
و فی نسخة ابن ادریس: «شکاتی»(51)، و «الشکاة»: الأنین(52)
اللَّهُمَّ لاَ تَفْتِنِّی بِالْقُنُوطِ مِنْ إِنْصَافِکَ، وَ لاَ تَفْتِنْهُ بِالاَمْنِ مِنْ إِنْکَارِکَ، فَیُصِرَّ عَلَى ظُلْمِی، وَ یُحَاضِرَنِی بِحَقِّی.
<«الفتنة»: المحنة و الابتلاء بخیرٍ أو شرٍّ، قال ـ تعالى ـ: (وَ نَبْلُوکُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَیرِ فِتْنةً)(53) و أصله من: فتنت الذهب بالنار: إذا أحرقته لیعلم أنّه خالصٌ أو مشوبٌ.
و «القنوط»: الیأس.
و «الإنصاف»: مصدر أنصفت الرجل: إذا عاملته بالعدل و القسط، و الاسم: النَصَفَة ـ بفتحتین ـ>(50)
و «الأمن» إمّا بمعنى: الإطمینان، أو بمعنى: السلامة ـ من أمن زیدٌ الأسد ـ ؛ و أمن منه بمعنى: سلم منه وزناً و معنىً.
و «الإنکار» هنا مصدر: أنکرت علیه فعله: إذا زجرته عنه و عاقبته علیه؛ و المعنى: لاتمتحنی بالیأس من إنصافک لی منه و لاتمتحنه بعدم الخوف ـ أو بالسلامة ـ من عقوبتک و انتقامک.
و قال الفاضل الشارح: «و استشکل بعضهم ذلک بأنّ عدم انصاف المظلوم من الظالم محالٌ على اللّه ـ تعالى ـ، فکیف یجوز الیأس من انصافه ـ سبحانه ـ؟!،
و أجاب بحمله على الیأس منه فی الدنیا».
و قال آخر: «القنوط من إنصافه ـ تعالى ـ عبارةٌ عن طول مدّة الظلم و تمادیه، فکأنّه
– علیه السلام ـ سأل أن لایبتلیه بامتداد الظلم و تأخیر الانتقام من ظالمه».
و لایخفى انّ الاستشکال ساقطٌ رأساً!، لأنّ القنوط من انصاف اللّه ـ تعالى ـ کفرٌ و لامانع من أن یدعو الإنسان ربّه أن لایبتلیه بالکفر. فإن کان الاستشکال نظراً إلى منصب الإمامة و مقام الداعی – علیه السلام ـ المقطوع له بأنّ اللّه لایبتلیه بذلک أبداً، فغیر ممتنعٍ أن یدعو النبیّ أو الإمام بأن یفعل اللّه به ما یعلم انّه لابدّ من أن یفعله ـ کقول ابراهیم علیه السلام: (وَ لاَتُخْزِنِی یَومَ یُبعَثُونَ)(54) ـ ؛ و ذلک کلّه على سبیل الانقطاع إلیه ـ تعالى ـ و اظهار الفقر إلى مسألته و الاستعانة به على کلّ حالٍ؛ فلااشکال أصلا»(55)؛ انتهى کلامه.
أقول: لایخفى ما فی هذه الوجوه من الرکاکة و عدم صلاحیّتها للجواب!.
و الجواب: انّه قد یعرض للمظلوم حالةٌ شبیهةٌ بالقنوط و الیأس من الانصاف؛
أمّا بحسب الظاهر ـ باعتبار استشعاره بذنوبه ـ کان عدم الانصاف عدالةً فی حقّه ـ کما قیل:
ستم بر ستم پیشه عدلست و داد ـ
فان قلت: هذا فی شأن غیر المعصوم و الأبرار و الأولیاء صحیحٌ، و أمّا فی شأنهم لایستقیم؛
قلنا: قد مرّ فیما سبق من أنّهم دائماً فی المراقبة متوجّهون إلى الحضرة الأحدیّة فانون عن أنفسهم بالکلّیّة، فمتى ألحظوا عن تلک المرتبة الرفیعة إلى الاشتغال بالأمور الدنیویّة عدّوه ذنباً و خطیئةً!؛
و أمّا بحسب الباطن فباعتبار خوف الوقوف فی مرتبة نفس الأمّارة و عدم الخروج عنها إلى المراتب العالیة الرفیعة.
قال بعض الفضلاء: «فان قیل: استدعاء عدم الیأس من عدله یستدعی جواز الظلم علیه ـ تعالى اللّه عن ذلک علوّاً کبیراً ـ ؛
قلت: العدول عن العدل إلى شیئین: إمّا إلى الظلم؛ أو إلى التفضّل؛ و المراد هنا الثانی؛ فلامفسدة».
قوله – علیه السلام ـ: «فیُصِرّ على ظلمی».
«الفاء» سببیّةٌ عاطفة عند الجمهور، و المضارع بعدها منصوبٌ بـ «أن» مضمرةً وجوباً لوقوعه بعد «فاء» السببیّة مسبوقةً بطلبٍ محضٍ؛ و إن و صلتها فی تأویل مصدرٍ معطوفٍ على مصدرٍ متصیّدٍ من الفعل السابق؛ و التقدیر: لاتکن منک فتنةٌ له بالأمن من إنکارک فیصیر ذلک سبباً لاصراره على ظلمی و محاصرةً بحقّی.
و «الاصرار»: الدوام و اللزوم؛ أی: فیدوم علی ظلمی و یلازمه.
و «یحاضرنی» بالمهملتین؛ و فی نسخةٍ من «المحاصرة» بمعنى: المضایقة و الحبس، یقال: حصره یحصره حصراً: ضیق علیه و حبس؛ و بالمعجمتین فی أخرى من «المحاضرة»، و هو بیع الثمار قبل أن یبدو صلاحها؛ و المراد هنا: أن یذهب بحقّی مجازاً. و بالخاء المعجمة و الصاد المهملة أی: یأخذ بخاصرتی و یضیق علیَّ أمری. و الخاصرة هی مافوق الکلیة و الشراسیف؛ أی: بمخاصرتی و یضیق علیَّ أمری ـ لأنّ أخذ الخاصرة یشدّ على الإنسان. و لیس فی أمّ النسخ إلّا الأخیرتان.
و فی بعض النسخ بالحاء المهملة و الضاد المعجمة، إمّا من حاضرته محاضرةً ـ أی: جلست معه عند السلطان لأخذ الحقّ منه ـ، أو من حاضرته حضاراً ـ أی: عدوت معه(56) ـ.
وَ عَرِّفْهُ عَمَّا قَلِیلٍ مَا أَوْعَدْتَ الظَّالِمِینَ.
«عرّفه» الأمر تعریفاً: أعلمه إیّاه، أی: عرّف ظالمی و أذقه عمّا قریبٍ ممّا أوعدت الظالمین ـ بقولک: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِینَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادُقِهَا وَ إِنْ یَسْتَغِیثُوا یُغَاثُوا بِمَاءٍ
کَالْمُهْلِ)(57)، و غیر ذلک من الآیات ـ حتّى ینزجر عن ظلمه علیَّ.
<و «عمّا قلیلٍ» أی: زمانٍ قلیلٍ قصیرٍ، و «ما» مزیدةٌ بین الجارّ و المجرور لتأکید معنى القلّة ـ کما فی: «قلیلٍ مّا» ـ. و قیل: «هی نکرةٌ موصوفةٌ، أی: عن شیءٍ قلیلٍ»>(58)؛ أی: عرّف ظالمی شیئاً قلیلاً من عذابٍ أوعدت به الظالمین ـ… إلى آخره، کما عرفت آنفاً ـ.
وَ عَرِّفْنِی مَا وَعَدْتَ مِنْ إِجَابَةِ الْمُضْطَرِّینَ.
أی: بقولک: (أَ مَّنْ یُجِیبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ)(59)
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ وَفِّقْنِی لِقَبُولِ مَا قَضَیْتَ لِی وَ عَلَیَّ، وَ رَضِّنِی بِمَا أَخَذْتَ لِی وَ مِنِّی، وَ اهْدِنِی لِلَّتِی هِیَ أَقْوَمُ، وَ اسْتَعْمِلْنِی بِمَا هُوَ أَسْلَمُ.
«و وفّقنی لقبول ما حکمت و قدّرت لی» أی: لنفعی من النعم، و «علیَّ» أی: لمضرّتی من البلاء.
و «رضّنی» أی: اجعلنی راضیاً بما أخذت لی من الظالم بسبب عقوبتک علیه، فانّ فی عقوبة الظالم تسکیناً لقلب المظلوم؛ أو: اجعلنی راضیاً بما استوفیت من ظالمی من حقّی، و أرضه ـ أی: أرض الغیر ـ بما أخذت منّی من مظلمة الغیر عندی ـ من باب: علفته تبناً و ماءً بارداً ـ ؛ أو: رضّنی بما أخذ الظالم منّی. أو المقصود سؤال مقام الرضاء بالقضاء الّذی هو أرفع مقامات السالکین و رأس طاعة المتّقین ـ کما روی عن صاحب الدعاء علیّ بن الحسین علیه السلام: «الصبر و الرضا عن اللّه رأس طاعة اللّه»(60)؛
و عنه علیه السلام: «الزهد عشرة أجزاء أعلى درجة الزهد أدنی درجة الورع، و أعلى درجة الورع أدنى درجة الیقین، و أعلى درجة الیقین أدنى درجة الرضا»(61)، فأشار علیه السلام إلى أنّ الرضا فوق الجمیع. و عن الصادق علیه السلام: «رأس طاعة اللّه الصبر و الرضا عن اللّه فیما أحبّ العبد أو کره»(62) ـ.
و قوله – علیه السلام ـ: «و أهدنی ـ… إلى آخره ـ أی: للخصلة، أو الملّة أو الحالة أو الحکمة أو الطریقة الّتی هی أقوم و أدوم و أحکم، أو أشدّ استقامةً و اعتدالاً، أو أنظم و أعمد. یقال: أقام الشیء: إذا أدامه؛ و یقال أیضاً: قوّم الشیء فهو قویمٌ، أی: مستقیمٌ.
و «إقوام» الأمر ـ بالکسر ـ: نظامه و عماده؛ و «قام» الأمر أی: اعتدل. و فی حذف الموصول فخامةٌ و بلاغةٌ لاتوجد مع الاثبات لما فی إبهام الموصوف بحذفه من التعمیم و ذهاب الوهم کلّ مذهبٍ، و ذلک مفقودٌ مع ایضاحه.
و قوله – علیه السلام ـ: «و استعملنی» أی: اجعلنی عاملاً لعملٍ یکون هو أسلم من العذاب و العقوبات؛ یقال: عمل عملاً، و أعمل غیره، و استعمله معنى(63) إذا طلب إلى العمل بما هو أسلم؛ و یقال أیضاً: استعمله أی: طلب إلیه العمل.
اللَّهُمَّ وَ إِنْ کَانَتِ الْخِیَرَةُ لِی عِنْدَکَ فِی تَأْخِیرِ الأَخْذِ لِی وَ تَرْکِ الانْتِقَامِ مِمَّنْ ظَلَمَنِی إِلَى یَوْمِ الْفَصْلِ وَ مَجْمَعِ الْخَصْمِ؛
«الخِیَرة» ـ بکسر الخاء و فتح الیاء المثنّاة من تحتٍ ـ بمعنى: الاختیار؛ و بسکونها: اسمٌ من الاختیار ـ کالفدیة اسمٌ من الافتداء ـ. <و قیل: «هی بالسکون: اسمٌ من خار اللّه لک،
أی: أعطاک ما هو خیرٌ لک، و بالفتح: اسمٌ من اختار اللّه»؛
و قیل: «هما بمعنىً واحدٍ، أی: إن کان>(64) المختار لی أو الخیر لی عندک فی تأخیر الأخذ لی، أی: العقوبة و ترک الإنتقام».
<أصل «الترک» استعماله فی الأعیان، یقال: ترکت المنزل ترکاً: رحلت عنه، و: ترکت الرجل: فارقته؛ ثمّ استعیر للاسقاط فی المعانی، فقیل: ترک حقّه: إذا أسقطه، و: ترک رکعةً من الصلاة: لم یأت بها، فانّه اسقاطٌ لما ثبت شرعاً.
و «یوم الفصل»: یوم القیامة، سمّی بذلک لأنّه یفصل فیه بین الحقّ و الباطل.
و «المجمع»: محلّ الجمع، أو زمانه.
و «الخصم»: المدّعی على غیره حقّاً من الحقوق المتنازع له فیه. و یعبّر به عن الواحد و الاثنین و الجماعة بلفظٍ واحدٍ ـ لأنّ أصله المصدر ـ ؛ فیقال: رجلٌ خصمٌ، و رجلان خصمٌ، و رجالٌ خصمٌ؛ و فی لغةٍ یطابق فی التثنیة و الجمع ـ فیقال: خصمان و خصوم ـ ؛ و قد وردت اللغتان فی القرآن>؛ هذا(64)
و لمّا کانت الحقیقة المحمّدیّة التعیّن الأوّل و بواسطتها یصل الفیض إلى المعلولات الإمکانیّة، و التأخیر فی حقّ الخصم ـ إذا کان مصحلةً ـ أیضاً من فیوضاته الشاملة و رحمته الکاملة، فالمناسب أن یسترحم من الحضرة الأحدیّة بواسطة الصلاة على الحقیقة المحمّدیّة؛ فلذلک قال – علیه السلام ـ :
فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ أَیِّدْنِی مِنْکَ بِنِیَّةٍ صَادِقَةٍ وَ صَبْرٍ دَائِمٍ.
«التأیید»: التقویة.
و «النیّة» ـ بالتشدید ـ: اسمٌ من نواه ینویه أی: قصده، ثمّ خصّت النیّة فی غالب الاستعمال بـ: عزم القلب على أمرٍ من الأمور.
<و «صادقة» أی: حسنةٌ جمیلةٌ؛ و یعبّر عن کلّ فعلٍ فاضلٍ ـ ظاهراً و باطناًـ بالصدق، لأنّ الصدق فی الحدیث مستحسنٌ جیّدٌ، فصاروا یستعملونه فی مطلق الجودة؛ و منه: رجلٌ صدقٌ، و لسانٌ صدقٌ، و مقعدٌ صدقٌ>(65) و المعنى: اجعلنی مؤیّداً من جناب قدسک بعزمٍ حسنٍ على الکفّ عن طلب حقّی منه إلى ذلک الیوم حتّى لاتزلّ قدمی عن سواء الصراط بسوء الاعتقاد فی ابطال حقّی و استیفاء مظلمتی من ظالمی، بل اجعلنی ملهماً بأنّ مصلحتی و خیرتی و خیری فی استیفاء حقّی.
و إنّما طلب منه ـ سبحانه ـ ذلک، لأنّ احتمال الظلم لأجل المثوبات الأخرویّة یفتقر إلى یقینٍ کاملٍ و صبرٍ شاملٍ ـ رزقنا اللّه إیّاهما ـ.
وَ أَعِذْنِی مِنْ سُوءِ الرَّغْبَةِ وَ هَلَعِ أَهْلِ الْحِرْصِ.
<«عاذ» باللّه: اعتصم و امتنع؛ و «أعاذه» اللّه: عصمه و منعه.
و «ساء» الشیء یسُوء ـ بالضمّ ـ: قبح.
و «الرغبة»: السؤال و الطلب؛ و قد تطلق الرغبة على الشره و الحرص>(66)
و «الهلع» قال الجوهریّ: «بالتحریک، أشدّ الجزع»(67)؛
و قیل: «الجزع و قلّة الصبر»(68)
و «الحرص» ـ بالکسر ـ: الاجتهاد فی الطلب و الرغبة المذمومة، أی: الشره و الحرص على الدنیا الدنیّة؛ أی: و أعذنی من سوء شدّة الجزع ـ الّتی هی من صفات أهل الحرص ـ على غیر مرضاتک؛ أو: على الأخذ و الاستیفاء من الظالم مع کون مصلحتی فی ترک ذلک إلى یوم الفصل و مجمع الخصم.
وَ صَوِّرْ فِی قَلْبِی مِثَالَ مَا ادَّخَرْتَ لِی مِنْ ثَوَابِکَ، وَ أَعْدَدْتَ لِخَصْمِی مِنْ جَزَائِکَ وَ عِقَابِکَ. وَ اجْعَلْ ذَلِکَ سَبَباً لِقَنَاعَتِی بِمَا قَضَیْتَ، وَ ثِقَتِی بِمَا تَخَیَّرْتَ.
«صوّرت» الشیء: مثّلت صورته و شکله.
و المراد من «القلب» هنا: الذهن(69)
و «المِثال» ـ بالکسر ـ فی الأصل اسمٌ من ماثله مماثلةً: إذا شابهه، ثمّ استعمل بمعنى الصورة و الشکل؛ فقالوا: هذا مثاله أی: صورته و شکله>(66)
و «الادّخار»: اعداد الشیء لوقت الحاجة.
و «الاعداد»: التهیئة.
و «قنع» بالشیء قناعةً: رضی به.
و «الوثوق»: الاعتماد؛ و المعنى: احضر صورة ما أعددت و ادّخرت لی وقت الحاجة إلیه ـ من ثوابک و جزائک على الصبر على مظلمتی ـ و هیّأت لظالمی ـ من عقابک و انتقامک ـ فی قلبی و ذهنی حتّى یطمئنّ قلبی و تصیر نیّتی صادقةً و صبری دائماً؛ و اجعل ذلک ـ أی: جمیع ما ذُکر من صدق النیّة و دوام الصبر و تصویر المثال ـ سبباً لحصول رضای بالّذی قضیته و حکمت به لی و اعتمادی على ما اخترته لی من تأخیر عقوبة ظالمی؛ و غیر ذلک من مصالح الّتی لایستأثرها إلّا أنت.
آمِینَ رَبَّ الْعَالَمِینَ؛ إِنَّکَ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِیمِ، وَ أَنْتَ عَلَى کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ.
قد مرّ الکلام فی تحقیق «آمین ربّ العالمین» فی آخر الروضة الثانیة بما لامزید علیه.
و «إنّک ـ… إلى آخره ـ»: تعلیلٌ لاعطاء المسؤول و مزید استدعاءٍ للاجابة.
و قد وفّقنی اللّه ـ تعالى ـ لاتمام هذه اللمعة فی عصر یوم الجمعة من العشر الأوّل من شهر ذی القعدة سنة ثلاثین و مأتین و ألف من الهجرة النبویّة سنة 1230.
1) کریمة 190 البقرة / 87 المائدة / 55 الأعراف.
2) کریمة 194 البقرة.
3) کریمة 40 الشورى.
4) قارن: «ریاض السالکین» ج 3 ص 47.
5) کریمة 90 النحل.
6) کما قال العلّامة الحلّی: «و البغی: مجاوزة الحدّ، و قیل: لأنّه ظالمٌ بذلک»، راجع: «تذکرة الفقهاء»ـ الطبعة الحجریّة ـ ج 1 ص 452.
7) راجع: «المفردات» ص 537 القائمة 2، مع تغییرٍ یسیر.
8) کریمة 13 لقمان.
9) کریمة 42 الشورى.
10) کریمة 32 فاطر.
11) هذا تتمّة کلام الراغب، قارن: نفس المصدر المذکور فی التعلیقة السالفة.
12) راجع: «من لایحضره الفقیه» ج 4 ص 177 الحدیث 5403، «بحار الأنوار» ج 13 ص 429،«الأمالی» ـ للصدوق ـ ص 71 الحدیث 2.
13) قارن: «نور الأنوار» ص 107، مع تغییرٍ یسیر.
14) قارن: «شرح الصحیفة» ص 164.
15) کریمة 25 القصص.
16) کریمة 64 الکهف.
17) و انظر: «کشف الرموز» ج 2 ص 525، «مستند الشیعة» ج 18 ص 358.
18) قارن: «ریاض السالکین» ج 3 ص 49.
19) راجع: «الکافی» ج 2 ص 333 الحدیث 14، «بحار الأنوار» ج 72 ص 331، «أعلام الدین»ص 409، «عوالی اللئالی» ج 1 ص 364 الحدیث 55.
20) راجع: «الکافی» ج 2 ص 509 الحدیث 4، «وسائل الشیعة» ج 7 ص 128 الحدیث 8917،«بحار الأنوار» ج 90 ص 358، «مکارم الأخلاق» ص 276.
21) راجع: «الکافی» ج 2 ص 334 الحدیث 18، «وسائل الشیعة» ج 16 ص 56 الحدیث20966، «بحار الأنوار» ج 90 ص 319.
22) کذا فی النسختین، و عن المحدّث الجزائری: «بالغ فیه منّی ممّا قد حرمته علیه»، انظر: «نورالأنوار» ص 107.
23) کما عن العلّامة المدنی، انظر: «ریاض السالکین» ج 3 ص 51.
24) انظر: «مجمع البیان» ج 10 ص 271. و لم أعثر على نصٍّ علیهما فی کتب غیره من المفسّرین،فانظر مثلاً: «التبیان» ج 10 ص 291، «تفسیر القرطبی» ج 19 ص 245، «التفسیر الکبیر»ج 31 ص 75، «الکشّاف» ج 4 ص 227.
25) کریمة 6 الانفطار.
26) و انظر: «شرح الصحیفة» ص 164.
27) کما حکاهما المحدّث الجزائری، انظر: «نور الأنوار» ص 107.
28) کریمة 45 القلم.
29) البیت من مشهور شعر النابغة الذبیانی، راجع: «دیوانه» ص 60، و انظر أیضاً: «دیوان المتنبّی» ص 413.
30) قال فی قوله ـ تعالى ـ: (مَا طَابَ لَکُمْ) ]کریمة 3 / النساء[: «و قیل ما ذهاباً إلى الصفة»،راجع: «الکشّاف» ج 1 ص 496.
31) قارن: «ریاض السالکین» ج 3 ص 53.
32) هیهنا حذف المصنّف قطعةً من کلام العلّامة المدنی.
33) راجع: «ریاض السالکین» ج 3 ص 55.
34) المصدر: الفاسد حتّى خاطبهم اللّه ـ تعالى ـ بقوله.
35) کریمة 17 عبس.
36) هذا قول المحدّث الجزائری، راجع: «نور الأنوار» ص 108.
37) هذا کلام المحقّق الداماد، راجع: «شرح الصحیفة» ص 165.
38) قارن: نفس المصدر المذکور فی التعلیقة السالفة، نقلاً عن «المغرب».
39) قارن: «ریاض السالکین» ج 3 ص 57.
40) و فی نسخة المحقّق الجزائری: «أبدله»، بدل: «أبدلنی»، ثمّ نسب هذه اللفظة إلى نسخةابن ادریس و حکم بأنّها أحسن من «أبدله»، انظر: «نور الأنوار» ص 108.
41) راجع: «صحاح اللغة» ج 3 ص 1245 القائمة 2.
42) لم أعثر علیه. و من کلامه – علیه السلام ـ: «من کمال الإیمان مکافاة المسیء بالإحسان»،راجع: «غرر الحکم» ص 88 الحکمة 1475.
43) کما حکاه المحقّق الداماد، راجع: «شرح الصحیفة» ص 167.
44) هذه هی قراءة محقّق الداماد، راجع: نفس المصدر المذکور فی التعلیقة السالفة.
45) و القراءة نسبها المحقّق الداماد إلى نسخة ابن ادریس، راجع: نفس المصدر أیضاً.
46) و قال الجوهریّ: «و الشوى هو الشیء الهیّن الیسیر»، راجع: «صحاح اللغة» ج 6 ص 2397القائمة 1.
47) کریمة 99 المؤمنون.
48) کریمة 1 القلم.
49) العبارة مأخوذةٌ من قول المحقّق الداماد، راجع: «شرح الصحیفة» ص 167.
50) قارن: «ریاض السالکین» ج 3 ص 60.
51) و على مدار هذه اللفظة یدور المحدّث الجزائری فی شرحه، انظر: «نور الأنوار» ص 108.
52) و انظر: «شرح الصحیفة» ص 168.
53) کریمة 35 الأنبیاء.
54) کریمة 87 الشعراء.
55) راجع: «ریاض السالکین» ج 3 ص 61.
56) و لتفصیل هذه الوجوه الثلاثة راجع: «ریاض السالکین» ج 3 ص 62.
57) کریمة 29 الکهف.
58) قارن: «ریاض السالکین» ج 3 ص 63.
59) کریمة 62 النمل.
60) راجع: «الکافی» ج 2 ص 60 الحدیث 3، «وسائل الشیعة» ج 3 ص 251 الحدیث 3547،«بحار الأنوار» ج 69 ص 334، «مشکاة الأنوار» ص 35.
61) راجع: «الکافی» ج 2 ص 62 الحدیث 10، «بحار الأنوار» ج 69 ص 334 الحدیث 26،«الدعوات» ص 164 الحدیث 454.
62) راجع: «الکافی» ج 2 ص 60 الحدیث 1، «وسائل الشیعة» ج 3 ص 253 الحدیث 3555،«بحار الأنوار» ج 68 ص 158، «مسکّن الفؤاد» ص 87.
63) کذا فی النسختین.
64) قارن: «ریاض السالکین» ج 3 ص 67.
65) قارن: «ریاض السالکین» ج 3 ص 68.
66) قارن: «ریاض السالکین» ج 3 ص 69.
67) قال: «الهلع: أفحش الجزع»، راجع: «صحاح اللغة» ج 3 ص 1308 القائمة 1.
68) هذا قول الزبیدیّ حیث قال: «الهلع محرّکةً: الجزع و قلّة الصبر»، راجع: «تاج العروس» ج11 ص 546 القائمة 1.
69) المصدر: العقل.