بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله الّذی جعل الرضا بقضائه مرتبةً رفیعةً لأولیائه و التسلیم لأمره منقبةً منیعةً لأحبّائه، و الصلاة و السلام على محمّدٍ – صلّى الله علیه و آله و سلّم – خیر أنبیائه، و على أهل بیته سیّما علیٍّ – علیه السلام – خیر أوصیائه.
و بعد؛ فهذه اللمعة الخامسة و الثلاثون من لوامع الأنوار العرشیّة فی شرح الصحیفة السجّادیّة – صلوات الله و سلامه علیه و على آبائه و أبنائه فی کلّ غدوةٍ و عشیّة – إملاء الراجی تفضّلاته السنیّة محمّد باقر بن السیّد محمّد من السادات الموسویّة – رفعه الله تعالى و وفّقهما الله للرضا بقضائه و قدره، بمحمّدٍ و آله خیر البریّة -.
وَ کَانَ مِنْ دُعَائِهِ – عَلَیْهِ السَّلاَمُ – فِی الرِّضَا إِذَا نَظَرَ إِلَى أَصْحَابِ الدُّنْیَا.
«الرضا» فی اللغة: خلاف السخط؛ و فی العرف: سرور القلب بجریان القضاء – و منه قول القائل: «الرضا بالقضاء باب الله الأعظم!»(1) -.
اعلم! أنّ الرضا بالقضاء من أجلّ المقامات، و من سلک هذا المسلک نال أکمل
السعادات و صحّت منه دعوى المحبّة الّتی یرتقى بها إلى أعلى الدرجات. و لم یتشعّب خاطره بورود الحادثات و إعتوار المصیبات، و لم یزل مطمئنّ البال منشرح الصدر متفرّغ القلب للإشتغال بما یعنیه من الطاعات و العبادات؛ و من لم یرض بالقضاء دخل فی وعید: «من لم یرض بقضائی…»(2) -… الحدیث. و مع ذلک لایزال محزوناً مهموماً ملازماً للتلهّف و التأسّف على أنّه لمکان کذا؟ و لم لایکون کذا؟!. لایستقرّ خاطره أصلا و لایتفرّغ لما یعنیه أبداً؛ و نعم ماقال بعض العرفاء: «إنّ حسرتک على الأمور الفانیة و تدبیرک للأمور الآتیة قد أذهبا برکة ساعتک الّتی أنت فیها!». و قد تقدّم الکلام علیه فلیرجع إلیه.
و «النظر» هنا: رؤیة الشیء، یقال: نظرت إلى الشیء: إذا رأیته.
و «الأصحاب»: جمع صاحب؛ و المراد به هنا: مالک الدنیا، یقال لمالک المال: هو صاحبه، و کذا من یملک التصرّف فیه.
و «الدنیا» قد مرّ الکلام علیها.
الْحَمْدُ لِلَّهِ رِضىً بِحُکْمِ اللَّهِ، شَهِدْتُ أَنَّ اللَّهَ قَسَمَ مَعَایِشَ عِبَادِهِ بِالْعَدْلِ، وَ أَخَذَ عَلَى جَمِیعِ خَلْقِهِ بِالْفَضْلِ.
«رضىً» منصوبٌ إمّا على الحالیّة، أو على التعلیل، أو على المفعول المطلق؛ و على الأوّلین فالعامل «الحمد» المذکور، لأنّه مصدرٌ و هو یعمل عمل فعله. و قال الفاضل الشارح: «و ما وقع لبعضهم من(3) انّ العامل محذوفٌ – لئلّا یلزم عمل المصدر المعرّف – مبنیٌّ على مذهب بعضهم، و فیه أربعة مذاهب. و(4) مذهب الخلیل و سیبویه جوازه مطلقاً من غیر قبحٍ، سواءٌ
عاقبت آلة التعریف فیه الضمیر أم لا»(5)؛ انتهى.
و قیل: «رضىً بحکم الله حالٌ عن نسبة الخبر إلى المبتدء، و کذلک قوله: «شهدت»، أی: أنسب الإختصاص بالله إلى الحمد حال کونی راضیاً بحکم الله و حال کونه شاهداً -… إلى آخره -. و یحتمل أن یکون قوله: «شهدت» استینافاً، کأنّ قائلاً یقول: لم حمدته حال الرضا بحکمه مع أنّ فی حکمه تفاوت المعاش و فضل بعض الخلق على بعضٍ – و فیه شوبٌ من الخروج عن العدل! – ؟
أجاب: انّی شهدت انّه جمع بین العدل و الأخذ بالفضل.
و یحتمل أن یکون «الواو» فی قوله: «و أخذ» للحال عن فاعل «قسم»؛ و الحاصل: انّه لامنافاة بین العدل و الأخذ بالفضل، فانّ المراد بالعدل: إعطاء من یفسده القلیل الکثیر و إعطاء من یفسده الکثیر القلیل.
و «المعایش»: جمع المعیشة، و هی ما یتعیّش به من الأموال و الأرزاق.
و قوله: «بالفضل» متعلّقٌ ب- «أخذ».
و المراد ب- «أخذ الفضل على الجمیع»: انّ جمیع الخلق مفضولٌ – فانّ فوق کلّ ذی فضلٍ أفضل منه -، فانّ الله ذوفضلٍ على الناس(6)، و له خزائن السماوات و الأرضین(7) و قیل: «و أخذ على جمیع خلقه بالفضل، أی: أخذ علیهم و کلّفهم بأن یتفضّل بعضهم على بعضٍ، أو انّه أخد علیهم و جازاهم بالتفضّل لابالإختصاص»؛ انتهى.
أقول: تقدّم الکلام على «العدل» و «الفضل»، و انّ أحدهما بالفیض الأقدس و الآخر بالفیض المقدّس؛ فتذکّر!.
و فی نسخةٍ: «بالفصل» – بالصاد المهملة – و هو: الحقّ من القول و الفاصل بین الحقّ و الباطل؛ أی: سار فیهم بالقضاء الفاصل بین الحقّ و الباطل، و فیه إشارةٌ إلى قوله
-سبحانه -: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَیْنَهُمْ مَعِیشَتَهُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنیَا) و هم عاجزون عنها – فانّ العدل لایکون قسمه إلّا عدلاً -، و: (رَفَعنَا بَعضَهُمْ فَوقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)، و أوقعنا بینهم التفاوت فی الرزق،… و غیره؛
و فی الحدیث القدسیّ: «و إنّ من عبادی من لایصلحه إلّا الفقر و لوأغنیته لأفسده ذلک»(8) (لِیَتَّخِذَ بَعضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِیّاً)(9) یستعمل بعضهم بعضاً فی حوائجهم فیحصل بینهم تآلفٌ و نظامٌ و ینتظم بذلک نظام العالم. لالکمالٍ فی الموسّع و لالنقصٍ فی المقتر، فانّ العدل هو ما به صلاح کلٍّ منهما.
و قال بعض العرفاء: «السخر ضربان:
سخر الرهبة و القهر، کتسخیر الإنسان لذی السطوة من الإنسان، و کتسخیر جامح الحیوان و مذلّلاته للإنسان؛
و تسخیر الرعیّة و المرتبة، کتسخیر السلطان للرعیّة فی القیام بأمورهم و الذبّ عنهم فی حفظ أنفسهم و أموالهم رغبةً فی التصدّر. فما یسخر مثلٌ المثل أبداً من حیث هو مثله، و إنّما یتسخّر له من الدرجة الّتی امتاز بها عنه و ارتفع علیه. فلایتسخّر إنسانٌ لإنسانٍ برهبةٍ أو رغبةٍ من حیث هو إنسانٌ، بل من حیث هو حیوانٌ»(10)
و قال: «ما تسخّر للإنسان من هو مثله إلّا من حیوانیّته، لا من إنسانیّته؛ فانّ المثلین ضدّان من حیث إنّهما لایجتمعان، فیسخّره الأرفع فی المنزلة بالمال أو بالجاه بإنسانیّته، و یتسخّر له الآخر إمّا خوفاً أو طمعاً من حیوانیّته لا من إنسانیّته. فما تسخّر له من هو مثله. ألاَ ترى ما بین البهائم من التجریش، لأنّها أمثالٌ، فالمثلان ضدّان و لذلک قال -تعالى -:
(وَ رَفَعَ بَعْضَکُمْ فَوقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)(11)»(12)؛ انتهى.
أقول: التحقیق انّ هذین التسخیرین یندرجان تحت درجة «الملک» و «المذلّ» من الأسماء – کما مرّ، فتذکّر!-.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ لاَتَفْتِنِّی بِمَا أَعْطَیْتَهُمْ، وَ لاَتَفْتِنْهُمْ بِمَا مَنَعْتَنِی فَأَحْسُدَ خَلْقَکَ، وَ أَغْمَطَ حُکْمَکَ.
«الفتنة»: الإبتلاء و الإمتحان، ثمّ کثر استعمالها فی إستعمال الإنسان فی بلیّةٍ و شدّةٍ – <و منه قوله تعالى: (وَ إِنْ کَادُوا لِیَفْتِنُونَکَ) أی: یوقعونک فی ضرّاءٍ و شدّةٍ فی صرفهم إیّاک عمّا أوحى إلیک -، و علیه عبارة الدعاء؛ أی: لاتوقعنی فی شدّةٍ و مکروهٍ بسبب ما أعطیتهم من متاع الدنیا - و هی الحسد لهم و الغمط لحکمک(13) -؛ حیث قال: «فأحسد خلقک و أغمط حکمک». و فی هذالمعنى بعینه قول أمیرالمؤمنین - علیه السلام - فی خطبةٍ له: «فإذا رأى أحدکم لأخیه غفیرةً فی أهلٍ و مالٍ أو نفسٍ فلاتکوننّ له فتنةً»(14) - «الغفیرة» بالغین المعجمة: الزیادة و الکثرة، و منه: الجمّ الغفیر؛ أی: إذا رأى أحدکم لأخیه زیادةً فی ولدٍ أو رزقٍ أو عمرٍ أو غیر ذلک فلایکوننّ ذلک له فتنةً تفضی به الى الحسد ->(15)
و قوله: «و لاتفتنهم بما منعتنی» أی: لاتوقعهم فی بلیّةٍ بسبب ما حرّمتنی من الدنیا بأن یرونی حقیراً مهاناً، أو یطغوا و یتکبّروا فیأثموا(16)؛ هکذا ذکره الفاضل الشارح.
أقول: إرادة المعنى الحقیقیّ ممکنةٌ، فلاحاجة إلى ماذکره؛ أی: و لاتختبرنی بما أعطیتهم بأن أطمع فیما هو فی أیدیهم فلاأرضی بما أعطیتنی؛ و لاتفتنهم بما منعتنی بأن یطغوا بسبب ما
أنعمت علیهم و حرّمتنی.
قوله – علیه السلام -: «فأحسد خلقک».
«الفاء» للسببیّة، و الفعل بعدها منصوبٌ ب- «أن» مضمرةً لسبقها بالطلب، فیصیر افتنانی بما أعطیتهم سبباً لأن أحسد خلقک – أی: أتمنّی زوال النعمة عنهم -، و سبباً لأن «أغمط» – أی: أحقر – «حکمک» – أی: تقدیرک و قضائک – فی قلّة معیشتی.
«أغمط» – بالغین المعجمة و الطاء المهملة، من غمطه یغمطه غمطاً، من باب ضرب و سمع -: استحقره، و العافیة: لم یشکرها، و النعمة: بطرها و حقّرها – کما مرّ-.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ طَیِّبْ بِقَضَائِکَ نَفْسِی، وَ وَسِّعْ بِمَوَاقِعِ حُکْمِکَ صَدْرِی، وَ هَبْ لِیَ الثِّقَةَ لاُِقِرَّ مَعَهَا بِأَنَّ قَضَاءَکَ لَمْ یَجْرِ إِلاَّ بِالْخِیَرَةِ.
أصل «الطیب»: ما تستلذّه الحواسّ و النفس، و طابت نفسه بالشیء: إذا قبلته و رضیته؛ أی: اجعل نفسی راضیةً بقضائک غیر کارهةٍ له.
و «اتّسع» صدره للأمر: إذا سهل علیه تحمّله، بخلاف «ضاق» صدره للأمر.
<و «مواقع الحکم»: ما وقع به الحکم و تعلّق به؛ أی: اجعل صدری واسعاً غیر ضائقٍ بمایوقعه حکمک من الأمور الّتی یشقّ على النفس تحمّلها. و الغرض سؤال مقام الرضا الّذی هو سرور النفس بمرّ(17) القضاء>(18)
و قیل: «المراد ب-: «مواقع الأحکام»: أفعال المکلّفین، لتعلیق الأحکام الخمسة بها»؛
و هو کما ترى!.
و «الثقة»: الإعتماد – کما مرّ مراراً -، أی: اجعلنی واثقاً بک معتمداً علیک بأنّ قضائک و حکمک فی أعیان الموجودات على ما هی علیه من الأحوال إنّما هو على وجه الخیر و نظام الأصلح بحیث لایتصوّر أوفق ممّا وقع – کما اشتهر: انّ الخیر فیما وقع -.
لمعةٌ عرشیّةٌ
اعلم! أنّ تحقیق هذا المطلب یتوقّف على تمهید مقدّمةٍ؛ و هی:
انّ(19) الفاعل قد یکون بالطبع – و هو الّذی یصدر عنه الفعل و لایکون من شأنه الإختیار، و یکون فعله ملائماً لطبعه الأصلیّ، کالنار للإحراق و الإنسان للصحّة و حفظ المزاج -؛
و قد یکون بالقسر – و هو الّذی یصدر عنه الفعل و لایکون من شأنه الإختیار، و یکون فعله على خلاف مقتضى طبعه الأصلیّ، کالحجر المرمیّ إلى فوقٍ للحرکة إلیه، و الإنسان للمرض و السمن و الهزال -؛
و قد یکون بالجبر – و هو الّذی یصدر عنه فعله بلااختیاره بعد أن یکون من شأنه اختیار الفعل و الترک، کالرجل الصالح للفعل القبیح المجبور علیه -؛
و هذه الأقسام الثلاثة مشترکةٌ فی کون کلٍّ منها غیر مختارٍ فی فعله؛
و قد یکون بالقصد – و هو الّذی یصدر عنه الفعل مسبوقاً بإرادته المسبوقة بعلمه المتعلّق بغرضه من ذلک الفعل، و یکون نسبة أصل قدرته و قوّته من دون إنضمام الدواعی و الصوارف إلى فعله و ترکه واحداً، کالإنسان للمشی -؛
و قد یکون بالعنایة – و هو الّذی یتبع فعله علمه بوجهٍ من الخیر بحسب نفس الأمر، و یکون علمه بوجه الخیر فی الفعل کافیاً فی صدوره عنه من غیر قصدٍ زائدٍ على العلم، کالإنسان لما یحصل منه بمجرّد التوهّم و التصوّر، کالسقوط من الجدار الحاصل منه عند تخیّل السقوط، و القبض الحاصل فی جرم لسانه المعصر للرطوبة عند تصوّره للشیء الحامض -؛
و قد یکون بالرضا – و هو الّذی یکون عمله بذاته الّذی هو عین ذاته سبباً لوجود
شیءٍ، و نفس معلومیّة الشیء له نفس وجوده عنه بلااختلافٍ، کالإنسان لتصوّراته و توهّماته -؛
و قد تکون بالتجلّی – کالحقّ سبحانه للعالم -؛
و هذه الأربعة مشترکةٌ فی کون کلٍّ منها فاعلاً بالإختیار و إن کان الأوّل منها مضطرّاً فی إختیاره. و ذلک لأنّ إختیاره حادثٌ فیه بعد العلم، و لکلّ حادثٍ محدثٌ، فیکون إختیاره عن سببٍ مقتضٍ و علّةٍ موجبةٍ.
فإمّا أن یکون ذلک السبب إیّاه؛
أو غیره؛
فإن کان غیره فهو مضطرٌّ فیه؛
و إن کان نفسه فإمّا أن یکون سببیّتها لإختیاره باختیاره؛
أو لا؛
فعلى الأوّل یعود الکلام و ینجرّ إلى التسلسل فی الإختیارات؛
و على الثانی یکون وجود الإختیار فیه لا بالاختیار، فیکون مضطرّاً أو محمولاً على ذلک الإختیار من غیره، فتنتهی الأسباب الخارجة عنه بالأخرة إلى الإختیار من غیر داعٍ زائدٍ و لاقصدٍ مستأنفٍ و غرضٍ عارضٍ.
و هذا هو معنى الإختیار الّذی هو الکمال فی الحقیقة، لا مایفهمه العوامّ.
إذا تمهّد هذه المقدّمة فنقول: لاشکّ فی أن فاعلیّته -تعالى – للعالم لیس فاعلیّةً بالطبع و لابالقسر و لابالجبر و لابالقصد؛ فهو -سبحانه – إذن إمّا فاعلٌ بالعنایة، أو بالرضا؛ و على أیّ تقدیرٍ فهو مختارٌ فی فعله. لأنّه إنّما صدر عنه بعد علمه بکیفیّة نظام الخیر فی الوجود بأنّه یصدر عنه و بأنّه إنّما یصدر عنه لأجل علمه بذلک و مشیّته اللّذین هما عین ذاته -تعالى – غیر مستکرهٍ و لامقهورٍ و لامغلوبٍ و لامضرورٍ – کما قال سبحانه: (وَ لَوشَاءَ لَهَدَاکُمْ
أَجْمَعِینَ)(20) إلى غیر ذلک -.
و لابدّ بعد الإختیار من وقوع المختار دون غیره، و المختار أن یکون أحسن ما یمکن أن یکون، و هو ما هو الأمر علیه.
و بوجهٍ آخر نقول: لمّا کان علمه -تعالى – بالأشیاء و بنظام الخیر فیها علماً لانقص فیه – بأن یکون علماً ظنّیّاً ضعیفاً، تعالى و تقدّس عن ذلک! – و کان علمه فعلیّاً سبباً لوجود الأشیاء الّتی هو علم بها على وجه التمام و الضرورة، کان حصول معلومه فی غایةٍ من الإحکام و نهایةٍ من الإتقان.
و بوجهٍ آخر إقناعیٍ: من تدبّر و تفکّر فی أمور العالم و أوضاعها و کیفیّة ترتیبها و نضدها و إرتباط علویها بسفلیها على الوجه المخصوص و فی منافع حرکاتها و نسب کواکبها و منافع أعضاء الحیوان و أجزاء النبات و سائر العنصریّات على سبیل الإجمال – لعدم اقتدار الإنسان على الإطّلاع و الشعور بجمیع منافعها و خصائصها، بل مایعلم الإنسان من دقائق حکمة الله فی إیجاد نفسه و بدنه شیءٌ قلیلٌ لانسبة له إلى ما لایعلمه من الحکم و المصالح الّتی روعیت فی إیجادهما، فکیف الحال فی معرفته لما خرج عن ذاته؟!؛ و بالجملة فی خلق العالم الکبیر و العالم الصغیر المعبّر عنهما بآیات الآفاق و الأنفس – یعلم و یتیقّن أنّه لایتصوّر ما هو أشرف و أحسن من هذا النظام الموجود.
وَ اجْعَلْ شُکْرِی لَکَ عَلَى مَا زَوَیْتَ عَنِّی أَوْفَرَ مِنْ شُکْرِی إِیَّاکَ عَلَى مَا خَوَّلْتَنِی.
«زویت» عنه الشیء: صرفته و قبضته عنه، ف- «زویت عنّی» أی: صرفت و قبضت عنّی(21)
و «خوّلتنی» أی: أعطیتنی، یقال: خوّله الله مالاً: أعطاه – و منه: (وَ تَرَکْتُمْ مَا
خَوَّلْنَاکُمْ)(22) أی: أعطیناکم -، و ذلک لأنّ النقص فی الدنیا یفنی (وَ الاخِرَةُ خَیْرٌ وَ أَبْقَى)(23)
وَ اعْصِمْنِی مِنْ أَنْ أَظُنَّ بِذِی عَدَمٍ خَسَاسَةً، أَوْ أَظُنَّ بِصَاحِبِ ثَرْوَةٍ فَضْلاً، فَإِنَّ الشَّرِیفَ مَنْ شَرَّفَتْهُ طَاعَتُکَ، وَ الْعَزِیزَ مَنْ أَعَزَّتْهُ عِبَادَتُکَ.
و المراد ب- «ذی العدم»: قلیل المال؛ أو عدیمه، لأنّ العَدَم – بفتحتین -: الفقر؛ و ضمّ عینه مع الإسکان لغةٌ فیه – کالحَزَن و الحُزْن، و الرَشَد و الرُشْد -.
و «الخساسة»: الحقارة، أی: احفظنی من أن أنسب الفقیر إلى الحقارة. و فی نسخةٍ: «خصاصة» – بالصادین – بمعنى: شدّة الإحتیاج، کما فی قوله -تعالى -: (وَ یُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَ لَو کَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)(24)
و «الثروة»: کثرة المال.
و «الشرف»: العلوّ.
و «العزّ»: خلاف الذلّ؛ أی: و اجعلنی محفوظاً من أن أنسب صاحب الثروة إلى الفضیلة، یعنی: من أن یکون الغنیّ أشرف فی عینی من الفقیر.
و «الفاء» للسببیّة، أی: لأنّ الشرافة لیست بالثروة حتّى أفتخر، بل إنّما هی بطاعتک؛ و کذا العزّة، بل إنّما هی بعبادتک. و فی الحدیث عن أبی عبدالله – علیه السلام -: «من استذلّ مؤمناً أو احتقره لقلّة ذات یده و فقره شهّره الله یوم القیامة على رؤوس الخلائق»(25)؛
و عن أمیرالمؤمنین – علیه السلام -: «من أتى غنیّاً فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دینه»(26)
و لمّا کان أکثر الناس یحتقرون الفقیر و یستخسّونه بطباعهم و یرون العزّة لمن له الزخارف و الحطام و لایرون أهل الفقر – و إن کانوا أرباب الفضل – إلّا کالحشرات و الهوامّ! سأل الإمام – علیه السلام – ربّه أن یعصمه من ذلک.
و من نوادر فقر أهل السداد ما روی: «انّه جاء رجلٌ مؤسرٌ إلى رسول الله – صلّى الله علیه و آله و سلّم – نقیّ الثوب، فجلس؛ ثمّ جاء رجلٌ معسرٌ دون الثوب، فجلس بجنب المؤسر، فقبص المؤثر ثیابه من تحت فخذیه. فقال رسول الله – صلّى الله علیه و آله و سلّم -: «أ خفت أن یمسّک من فقره شیءٌ؟
قال: لا!
قال: أ فخفت أن یصیبه من غناک شیءٌ؟
قال: لا!
قال: أ فخفت أن یوسّخ ثیابک!
قال: لا!
قال: فما حملک على ما صنعت؟
قال: یا رسول الله – صلّى الله علیه و آله و سلّم -: إن لی قریناً یزیّن لی کلّ قبیحٍ و یقبّح لی کلّ حسنٍ، و قد جعلت له نصف مالی!.
فقال رسول الله – صلّى الله علیه و آله و سلّم – للمعسر: أ تقبل؟
قال: لا!
فقال له المؤسر: و لم؟
قال: أخاف أن یدخلنی ما دخلک!»(27)
و قال علیّ بن إبراهیم – طاب ثراه – فی تفسیره(28) عند قوله -تعالى – فی سورة الکهف: (وَ اصْبِرْ نَفْسَکَ مَعَ الَّذِینَ یَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ الْعَشِیِّ یُرِیدُونَ وَجهَهُ) -… الآیة -: «هذه نزلت فی سلمان الفارسیّ – رضی الله عنه -، کان علیه کساءٌ یکون فیه طعامه و هو دثاره و رداؤه، و کان کساءً من صوفٍ؛ فدخل عیینة بن حصین على النبیّ – صلّى الله علیه و آله و سلّم – و سلمان عنده، فتأذّى عیینة بریح کساء سلمان و قد کان عرق فیه – و کان یوماً شدید الحرّ فعرق فی الکساء -، فقال: یا رسول الله – صلّى الله علیه و آله و سلّم -، إذا نحن دخلنا علیک فاخرج هذا و حزبه من عندک، فإذا نحن خرجنا فادخل من شئت!
فأنزل الله: (وَ لاَتُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِکْرِنَا)(29) و هو عیینة بن حصین بن حذیفة بن بدر الفزاریّ».
و من حکایات فقر أهل العلم و الفضل ما نقله أبوعبیدٍ: «إنّ النضر بن شمیل بن خرشة البصریّ من أصحاب الخلیل بن أحمد ضاقت علیه المعیشة بالبصرة، فخرج یرید خراسان، فشیّعه من أهل البصرة ثلاثة آلاف رجلٍ ما فیهم إلّا محدّثٌ أو نحویٌّ أو لغویٌّ أو أخباریٌّ. فلما صار بالمربد قال: یا أهل البصرة! یعزّ علیّ فراقکم! و الله لو وجدت کلّ یومٍ کیلجة باقلّی ما فارقتکم!؛
فلم یکن فیهم من یقدر أن یتکفّل ذلک!». فسار إلى خراسان فأفاد بها أموالاً(30) و توفّى ذی الحجّة سنة أربعٍ و مأتین بمدینة مرو(31)
و وجه ذلک انّ أهل العلم و العرفان مبرّؤون من حبّ الدنیا و طلب الجاه و جمع الزخارف و التلذّذ بالنعیم الفانی و صرف العمر فی تحصیل ذلک، و لذلک تراهم أذلّةً فی أعین الجهّال فقراء عند الأغنیاء!؛ و لکنّهم أعزّةٌ فی أنفسهم أغنیاء بعلوّ همّتهم مکرّمون عند من
یعرف منزلتهم و یرفع بالعلم علوّ شأنهم مرتبتهم؛ ونعم ما قیل: «فکم من حبرٍ همامٍ و بدرٍ تمامٍ، وفّق بعلمٍ تامٍّ، و أیّد فی علمه بإلهام، و نشر فؤاد العلوم، و علم المنطوق والمفهوم؛ و تتبّع المنثور و المنظوم، و استنبط المجهول من المعلوم؛ و جمع بین المعقول و المنقول، و تصفّح کتب الفروع و الأصول؛ و بلغ فی البلاغة الغایة القصوى، و انتهى فی الفصاحة إلى الأمد الأقصى؛ و أحیى رسوم العلوم الدینیّة، و روّج سوق المعارف الیقینیّة؛ و مهر فی کلّ فنٍّ من أنفس الفنون، و فتح بمفتاح اللسان کلّ سرٍّ مصون؛ و فاق فی بیان بدیع البراعة على أهل المعانی، و قرن فی دلائل الإعجاز بأسرار البلاغة فی تفسیر آیات المثانی؛ بتقریرٍ یعجز عن مختصر تلخیصه مطوّل البیان، و تحریرٍ یقصر عن إیضاح توضیحه أطول التبیان؛ و إرشادٍ ینقذ النفوس عن شوائب ظلمات الإبهام، و سدادٍ یخلّص الأفهام عن الزلل فی مزالق الأقدام؛ و لم یزل طول اللیالی بالمطالعة ساهر الجفون، و طول الأیّام مقتنصاً بالتصنیف شوارد الفنون؛ حتّى أصبح ذهنه مصباح کلّ معنىً مکنون، و لسانه إقلید أبواب کلّ مغلقٍ مخزون؛ و فکره ینبوع السعادة الأبدیّة، و قوله جادّة طریق المعرفة الأحدیّة؛ و صدره محطّ إشراق الأنوار الإلهیّة، و قلبه محلّ التماع الواردات القدسیّة، و طبعه مهبط إنطباع الصور الغیبیّة؛ و مع هذه الفضائل کلّها لوکان عائلاً فقیراً، کان عند الأغنیاء ذلیلاً حقیراً؛ فإذا حضر مجالس الفراعنة الطغاة، و اضطرّ إلى تلاقی الطواغیب البغاة؛ استحقروه بأثوابٍ أخلاق، حتّى قالوا: ما له من خلاق!؛ أو یستخفّون لطمریه، و مایدرون أن المرء بأصغریه؛ و انّ وراء القدّام صفو المدام؛ فانّهم لایجدون للعزّة سوى الثروة دلیلاً؛ و (أُولَئِکَ کَالاَْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِیلاً)(32)
و احتقار هذه الجماعة فی أنظار المغرورین بالمال، و اعتقاد المفتونین بالجاه. و أمّا فی نفس الأمر و فی نظر من یعرف علوّ شأنهم و یعتقد رفعة مکانهم فلا، بل هم أعزّة شرفاء، أکابر عرفاء؛ لایزال شأنهم رفیعاً و قدرهم منیعاً، و (لِلَّهِ الْعِزَّةُ)(33) جمیعاً. و من أجل ذلک ترى الملوک العظام، و الحکام الفخام، یخفضون لهم أجنحتهم، و یغتنمون رؤیتهم و صحبتهم، و
یجلسون بین أیدیهم جلوس المسترشد بین یدی المرشد، و یتواضعون بخلوص النیّة لهم تواضع العبد لسیّده، و الولد لوالده. فعند التأمّل الصادق و النظر الصحیح یظهر انّ هؤلاء العلماء هم الأمراء الأغنیاء، و الملوک الأعزّة العظماء؛ لا أولئک الجهّال الأغنیاء، المتکبّرون الحمقاء، المتجبّرون السفهاء!.
على أنّ عزّ أولئک و غناهم، و ذلّ هؤلاء و فقرهم لیس شیءٌ منها أمرٌ کلّیٌّ، بل لقائلٍ أن یقول: و لا أکثریٌّ؛ فکم من عالمٍ غنیٍّ و فاضلٍ أمیرٍ و غنیٍّ حقیرٍ و جاهلٍ فقیرٍ، بل هو أمرٌ اتّفاقیٌّ یکون لهذا مرّةً و لذلک أخرى؛ أو من تأثیرٍ فلکیٍّ یرفع شخصاً تارةً و یضعه أخرى؛ بل القول السدید: انّه بحکمٍ إلهیٍّ من ربّ العرش المجید، و یکون بقضاء الله و قدره فی قسمته ذلک بین العبید؛ و انّه -تعالى شأنه – یفعل ما یشاء و یحکم مایرید».
فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ مَتِّعْنَا بِثَرْوَةٍ لاَتَنْفَدُ، وَ أَیِّدْنَا بِعِزٍّ لاَیُفْقَدُ.
«الفاء» فصیحةٌ، أی: إذا کان الأمر هکذا «فصلّ على محمّدٍ و آله»، و اجعلنا متمتّعین «بثروةٍ» لاتنعدم، و هی الباقیات الصالحات – قال الله تعالى: (مَا عِنْدَکُمْ یَنْفَدُ وَ مَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)(34) -، یقال: <نفد الشیء ینفد - من باب تعب - نفاداً: فنى و انقطع.
و «الأید»: القوّة الشدیدة، و منه: (أَیَّدْتُکَ بِرُوحِ القُدُسِ)(35)
و «الفقد»: عدم الشیء بعد وجوده، فهو أخصٌّ من العدم>(36)
و «العزّ الّذی لایفقد» هو حسن العاقبة و خیر الخاتمة، لاالعزّ بالثروة الزائلة.
وَ اسْرَحْنَا فِی مُلْکِ الاَْبَدِ. إِنَّکَ الْوَاحِدُ الاَْحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِی لَمْ تَلِدْ وَ لَمْ تُولَدْ وَ لَمْ یَکُنْ لَکَ کُفُواً أَحَدٌ.
یقال: سَرَحت الإبل سرْحاً و سروحاً – من باب نفع -: رعت بنفسها؛ و: سرحتها سرحاً أیضاً: أرسلتها للرعی – و هو من الأفعال اللازمة و المتعدّیّة -؛ و: سرحته فی موضع کذا و إلى موضع کذا: أرسلته، و الاسم منه: السرح. و أمّا تسریح المرأة فهو تطلیقها، و الاسم منه: السراح – قال تعالى: (أُسَرِّحْکُنَّ سَرَاحاً جَمِیلاً)(37)، و قال تعالى: (فَإِمْسَاکٌ بِمَعْرُوفٍ أَو تَسرِیحٌ بِإِحْسَانٍ)(38) -؛ <و: سرّحتها - بالتثقیل - مبالغةً و تکثیراً. و أمّا أسرحتها - بالهمزة - فلم أقف علیه فی شیءٍ من کتب اللغة. فما وقع فی نسخة ابن ادریس من ضبط قوله - علیه السلام -: «و أسرحنا» بقطع الألف ینبغی تحریره>(39) أی: أرسلنا فی المراتع الدائمة الباقیة، و هی ما عندالله، فانّ ماسواه فانٍ. فالمراد ب- «السرح» هنا: التخلیة و عدم المنع کما تسرح الماشیة. و هو إستعارةٌ مکنیّةٌ و تخییلیّةٌ.
قوله – علیه السلام -: «إنّک الواحد الأحد -… إلى آخره -»، تعلیلٌ للدعاء و مزید استدعاءٍ للإجابة، و تاکیدٌ للجملة للإذعان بمضمونها.
و قیل: «و لمّا کان لقائلٍ أن یقول: لم طلبت المذکورات منّی لا من غیری؟
أجاب: بأنّک الواحد -… إلى آخره -».
<و «الواحد»: اسم فاعلٍ من وحد یحد وحداً - من باب وعد - أی: انفرد، فالواحد بمعنى المنفرد.
و «الأحد» أصله وَحُدَ – على وزن حسن، صفة مشبهةٍ منه، أبدلت الواو همزةً شذوذاً->(40) و قد <یفرّق بینهما فی الإستعمال من وجوهٍ(41)؛
أحدها: انّ الواحد أعمّ مورداً لإطلاقه على من یعقل و غیره، و الأحد لایطلق إلّا على من یعقل؛
و ثانیها: انّ الواحد یدخل فی الضرب و العدد بخلاف الأحد>(42)؛
<و ثالثها: انّ الواحد یستعمل وصفاً مطلقاً و الأحد یختصّ بوصف الله -تعالى -؛
و رابعها: انّ الواحد یجوز أن یجعل له ثانٍ – لأنّه لایستوعب جنسه – بخلاف الأحد؛
و خامسها: انّ الواحد یؤنّث بالتاء و الأحد یستوی فیه المذکّر و المؤنّث – قال تعالى: (لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ)(43)، و لایجوز: کواحدٍ من النساء، بل کواحدةٍ -؛
و سادسها: انّ الواحد لایصلح للإفراد و الجمع بخلاف الأحد؛
و سابعها: انّ الواحد لاجمع له من لفظه فلایقال: واحدون، و الأحد له جمعٌ من لفظه – و هو أحدون و أحاد ->(44)
و قد یفرّق بینهما بأنّ الواحد هو الفرد الّذی لم یزل وحده و لم یکن معه آخر، و الأحد هو الفرد الّذی لایتجزّی و لایقبل الإنقسام؛ فالواحد هو المتفرّد بالذات فی عدم المثل، و الأحد هو المتفرّد فی المعنى.
و قیل: «المراد بالواحد: نفی الترکیب و الأجزاء الخارجیّة و الذهنیّة عنه -تعالى -، و بالأحد: نفی الشریک عنه فی ذاته و صفاته».
و قیل: «الواحدیّة لنفی المشارکة فی الصفات، و الأحدیّة لتفرّد الذات».
و لمّا لم ینفکّ عن شأنه -تعالى – أحدهما عن الآخر قیل: «الواحد و الأحد فی حکم اسمٍ واحدٍ».
و قال بعض العرفاء: «و الفرق بین الأحد و الواحد: انّ الأحد هو الذات وحدها بلااعتبار کثرةٍ فیها – أی: الحقیقة المحضة الّتی هی منبع العین الکافوریّ، بل العین الکافوری نفسه -، و هو الوجود من حیث هو وجودٌ بلاقید عمومٍ و خصوصٍ و شرط عروضٍ و لاعروضٍ؛ و الواحد هو الذات مع اعتبار کثرة الصفات. و هی الحضرة الأسمائیّة، لکون
الإسم هو الذات مع الصفة».
و «الصمد»: السیّد المصمود إلیه فی الحوائج؛ و قد تقدّم الکلام علیه.
و قیل: «الصمد: هو السیّد المطلق لکلّ الأشیاء لافتقار کلّ ممکنٍ إلیه و کونه به، فهو الغنیّ المطلق المحتاج إلیه فی کلّ شیءٍ – کما قال تعالى: (وَ اللَّهُ الْغَنِیُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ)(45) -. و لمّا کان کلّ ما سواه موجوداً بوجوده لیس بشیءٍ فی نفسه – لأنّ الإمکان اللازم للماهیّة لایقتضی الوجود -، فلایجانسه و لایماثله شیءٌ فی الوجود؛ ف- «لم یلد» – إذ معلولاته لیست موجودةً معه، بل فهی به هی و بنفسها لیست شیئاً -، و «لم یولد» لصمدیّتة المطلقة؛ فلم یکن محتاجاً فی الوجود إلى شیءٍ.
و لمّا کانت هویّته المطلقة الأحدیّة غیر قابلةٍ للکثرة و الإنقسام و لم یمکن مقارنة الوحدة الذاتیّة لغیرها – إذ ماعدا الوجود المطلق لیس إلّا العدم المحض، فلایکافیه أحدٌ – ف- «لم یکن له کفواً»، إذ لایکافی العدم الصرف الوجود المحض»؛ انتهى.
اعلم! أنّه قد سبق انّ الله -سبحانه – وجودٌ محضٌ بسیطٌ من جمیع الجهات و الحیثیّات لاماهیّة له أصلا، و کلّ ما لاماهیّة له لامماثل و لامجانس له – لأنّ المماثلة و المجانسة یستلزمان الماهیّة -؛
و أیضاً: کلّ ما له مثلٌ فذاته مرکّبٌ من جزئین:
أحدهما: ما به الإتّحاد؛
و الثانی: ما به الإمتیاز؛ فیلزم الترکیب، و هو خلفٌّ.
و کلّ ما لایلد مثلاً أو مجانساً فلایولد أیضاً، لتضاعیف الإفتقار؛ و لأنّ التولّد و التوالد إنّما یقعان فیما لایحفظ نوعه و لایقی ذاته إلّا بتعاقب الأشخاص. فکلّ مولودٍ والدٌ؛
و أیضاً لایتشخّص المهیّة المشترکة بین الأعداد إلّا بواسطة المادّة الجسمانیّة و علاقتها؛ و الحاصل انّه -تعالى – لبراءته عن الأجسام و الموادّ و لأنّ أنّیّته نفس مهیته و لم تکن له
ماهیّةٌ سوى الهویّة المحضة الوجودیّة – المشار إلیها بقوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)(46) – لامثل له أصلا فضلاً عن أن یکون والدٌ له أو مولودٌ عنه.
و قوله: (وَ لَمْ یَکُنْ لَهُ کُفُواً أَحَدٌ)(47)، لمّا نفى عنه -تعالى – المشارک له فی الماهیّة أو فی بعضها، فأرید فی هذه الآیة نفی المکافىء فی الوجود المساوی فی قوّة الوجود و تأکّده، و ذلک لأنّ ذلک المکافىء:
إمّا أن یکون مساویاً له فی الماهیّة النوعیّة – و قد علم أن لا ماهیّة لواجب الوجود أصلا، فلامساوی له فیها -؛
أو یکون مساویاً له فی وجوب الوجود و کماله، فانّ صرف حقیقة الوجود الّذی لاأتمّ منه لایقبل التعدّد – إذ لاتعدّد و لامیز فی صرف الشیء و حقیقته -.
و قال الشیخ الرئیس: «انظر إلى کمال حقائق هذه السورة! أشار أوّلاً إلى الهویّة المحضة الّتی لااسم لها إلّا انّه «هو»؛
ثمّ عقّبه بذکر الإلهیّة الّتی هی أقرب اللوازم لتلک الحقیقة و أشدّها تعریفاً – کما بیّنا -؛
ثمّ عقّبه بذکر الأحدیّة لفائدتین:
الأولى: لئلّایقال: انّه ترک التعریف الکامل بذکر المقوّمات و عدل إلى ذکر اللوازم الثابتة لیدلّ على أنّه فی ذاته واحدٌ من جمیع الوجوه؛
و الثانیة: و رتّب الأحدیّة على الإلهیّة و لم یرتّب الإلهیّة على الأحدیّة، فانّ الإلهیّة عبارةٌ عن استغنائه عن الکلّ إلى أجزائه، فالإلهیّة من حیث هی هی یقتضیها الوحدة، و الوحدة لاتقتضی الإلهیّة. ثمّ عقّب ذلک بقوله: (الصَّمَدُ) و دلّ على تحقیق معنى الإلهیّة ب- «الصمد»- الّذی معناه وجوب الوجود أو للبدایة لوجود کلّ ماعداه من الموجودات -. ثمّ عقّب ذلک ببیان انّه لیس فی الوجود ما یساویه فی قوّة الوجود.
فمن أوّل السورة إلى قوله: (اللَّهُ الصَّمَدُ)(48) فی بیان ماهیّته و وحدة حقیقته، و انّه غیر مرکّبٍ أصلا؛ و من قوله: (لَمْ یَلِدْ) إلى قوله: (کُفُواً أَحَدٌ) فی بیان انّه لیس ما یساویه من نوعه و لا من جنسه، لا بأن یکون متولّداً عنه، و لا بأن یکون هو متولّداً عنه، و لا بأن یکون مواریاً له فی الوجود -. و بهذا المبلغ یحصل تمام معرفة ذات الله -تعالى – و صفاته و کیفیّة صدور أفعاله.
و هذه الصورة دالّةٌ على سبیل التعریض و الإیماء على جمیع ما یتعلّق بالبحث عن ذات الله -تعالى -، لاجرم کانت معادلةً لثلث القرآن. فهذه ماوقعت من أسرار هذه السورة، و انّه -سبحانه – محیطٌ بأسرار کلامه»(49)؛ انتهى کلامه.
أقول: قد ذکروا لتوجیه «انّها ثلث القرآن» وجوهاً أجودها: انّ المقصود الأشرف من جمیع الشرائع و العبادات معرفة ذات الله و صفاته و أفعاله، و هذه السورة مشتملةٌ على معرفة الذات، فکانت معادلةً لثلث القرآن(50)
و قال بعضهم: «قوله -سبحانه -: (هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ثلاثة ألفاظٍ کلّ واحدٍ منها إشارةٌ إلى مقامٍ من مقامات السالکین إلیه -تعالى -،
المقام الأوّل: للمقرّبین، و هم أعلى السائرین إلیه، فهؤلاء رأوا انّ موجودیّة الماهیّات بالوجود و أنّ أصل حقیقة الوجود بذاته موجودٌ بنفسه واجب الوجود متعیّن الذت لابتعیّنٍ زائدٍ، فعلموا انّ کلّ ذی ماهیّةٍ معلولٌ محتاجٌ، و انّه -تعالى – نفس حقیقة الوجود و الوجوب و التعیّن. فلهذا لمّا سمعوا کلمة (هُوَ) علموا انّه الحقّ -تعالى -، لأنّ غیره غیر موجودٍ بذاته و ما هو غیر موجودٍ بذاته فلاإشارة إلیه بالذات؛
و المقام الثانی: مقام أصحاب الیمین، و هؤلاء شاهدوا الحقّ موجوداً و الخلق أیضاً موجوداً، فحصلت الکثرة فی الموجودات فلاجرم لم یکن (هُوَ) کافیاً فی الإشارة إلى الحقّ، بل لابدّ هناک من ممیّزٍ یمیّز الحقّ عن الخلق، فهؤلاء احتاجوا إلى أن یقرن لفظ (اللَّهُ) بلفظ (هُوَ)، فقیل لأجله: (هُوَ اللَّهُ)، لأنّ الله هو الموجود الّذی یفتقر إلیه ماعداه و هو مستغنٍ عن کلّ ماعداه. فیکون أحدیّ الذات لامحالة، إذ لوکان مرکّباً کان ممکناً محتاجاً إلى غیره، فلفظة الجلالة دالّةٌ على الأحدیّة من غیر حاجةٍ إلى اقتران لفظ (أَحَدٌ) بها؛
المقام الثالث: مقام أصحاب الشمال، و هو أدون المقامات و أخسّها، و هم الّذین یجوّزون کثرةً فی واجب الوجود أیضاً – کما فی أصل الوجود -، فقورن لفظ (أَحَدٌ) بکلمة (اللَّهُ) ردّاً علیهم و إبطالاً لمقالهم، فقیل: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).
هذا آخر اللمعة الخامسة و الثلاثین من لوامع الأنوار العرشیّة فی شرح الصحیفة السجّادیّة، وفّقنی الله -تعالى – لإتمامها فی لیلة الثلثاء لثلاثةٍ بقین من رجب المرجّب سنة إحدى و ثلاثین و مأتین و ألفٍ من الهجرة النبویّة.
1) راجع: «أوصاف الأشراف» ص 88، «الأنوار الساطعة» ج 5 ص 314، «جامع السعادات»ج 3 ص 203.
2) راجع: «مستدرک الوسائل» ج 2 ص 410 الحدیث 8326، «بحارالأنوار» ج 88 ص 225،«التوحید» ص 371 الحدیث 11، «عیون أخبار الرضا» ج 1 ص 141 الحدیث 42، و تتمّةالحدیث توجد فی المصادر فی صورٍ شتّى.
3) المصدر: – من.
4) المصدر: – و.
5) راجع: «ریاض السالکین» ج 5 ص 180.
6) إشارةٌ إلى کریمة 243 البقرة.
7) إشارةٌ إلى کریمة 7 المنافقون.
8) راجع: «عوالی اللئالی» ج 2 ص 108 الحدیث 295، «مفتاح الفلاح» ص 161، و انظر: «الکافی» ج 2 ص 352 الحدیث 8، «مشکاة الأنوار» ص 312.
9) کریمة 32 الزخرف.
10) هذا تحریر کلام ابن عربی، راجع: «فصوص الحکم» ص 193، «شرح القیصری» علیه ص 1098.
11) کریمة 165 الأنعام.
12) راجع: نفس المصدرین.
13) المصدر: + المشار إلیهما بقوله.
14) راجع: «نهج البلاغة» الخطبة 22 ص 64، و انظر: «شرح ابن أبی الحدید» علیه ج 1 ص312، «الکافی» ج 5 ص 57 الحدیث 6.
15) قارن: «ریاض السالکین» ج 5 ص 184.
16) راجع: نفس المصدر و المجلّد ص 185.
17) المصدر: بمهر.
18) قارن: نفس المصدر و المجلّد أیضاً ص 186.
19) هذا تحریر کلام صدر المتألّهین، راجع: «الحکمة المتعالیة» ج 2 ص 221.
20) کریمة 9 النحل.
21) و انظر: «شرح الصحیفة» ص 301.
22) کریمة 94 الأنعام.
23) کریمة 17 الأعلى.
24) کریمة 9 الحشر.
25) راجع – مع تغییرٍ یسیر -: «الکافی» ج 2 ص 353 الحدیث 9، «وسائل الشیعة» ج 12 ص270 الحدیث 16281، «بحارالأنوار» ج 69 ص 46، «التمحیص» ص 46 الحدیث 63،«ثواب الأعمال» ص 250.
26) راجع: «نهج البلاغة» الکلمة 228 ص 508، «بحارالأنوار» ج 70 ص 170، و انظر: «تفسیرالعیّاشی» ج 1 ص 120 الحدیث 379.
27) راجع: «الکافی» ج 2 ص 262 الحدیث 11، «بحارالأنوار» ج 22 ص 130، «مجموعة ورّام»ج 2 ص 205.
28) راجع: «تفسیر القمّی» ج 2 ص 34.
29) کریمة 28 الکهف.
30) راجع: «وفیات الأعیان» ج 5 ص 398.
31) راجع: نفس المصدر و المجلّد ص 404، «الأعلام» ج 8 ص 33 القائمة 2.
32) کریمة 179 الأعراف.
33) کریمة 8 المنافقون.
34) کریمة 96 النحل.
35) کریمة 110 المائدة.
36) قارن: «ریاض السالکین» ج 5 ص 191.
37) کریمة 28 الأحزاب.
38) کریمة 229 البقرة.
39) قارن: نفس المصدر.
40) قارن: نفس المصدر أیضاً.
41) لم أعثر على هذه الفروق فی المصادر المعدّة لبیان فروق اللغات، ک- «فروق اللغات» و «الفروق اللغویّة».
42) قارن: «نورالأنوار» ص 163، مع تغییرٍ یسیر.
43) کریمة 32 الأحزاب.
44) قارن: «ریاض السالکین» ج 5 ص 193.
45) کریمة 38 محمّد.
46) کریمة 1 الإخلاص.
47) کریمة 4 الإخلاص.
48) کریمة 2 الإخلاص.
49) راجع: «تفسیر سورة الإخلاص» – فی «رسائل الشیخ الرئیس» – ص 319، مع تغییراتٍ واسعةٍ فی بعض ألفاظه.
50) هذا نصّ عبارة الرازی، راجع: «التفسیر الکبیر» ج 32 ص 176؛ و اقتبسها صدرالمتألّهین أیضاً، راجع: «شرح أصول الکافی» ج 3 ص 111.