بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله الموسّع للرزق و مقتّره، المنوّع له و مقدّره لکلّ شیءٍ بقدر حظّه و نصیبه؛ و الصلاة و السلام على محمّدٍ – صلّى الله علیه و آله و سلّم – نبیّه و حبیبه، و على آله و أهل بیته سیّما علیٍّ – علیه السلام – قاسم الأرزاق بإذنه.
و بعد؛ فهذه اللمعة التاسعة و العشرون من لوامع الأنوار العرشیّة فی شرح الصحیفة السجّادیّة – صلّى الله علیه و على آبائه و أبنائه -، إملاء المتوسّل إلى ألطافه السرمدیّة فی رفع تقتیر رزقه الصوریّة و المعنویّة محمّد باقر بن السیّد محمّد من السادات الموسویّة – أصلح الله تعالى حالهما بنبیّه و وصیّه! -.
وَ کَانَ مِنْ دُعَائِهِ – عَلَیْهِ السَّلاَمُ – إِذَا قُتِّرَ عَلَیْهِ الرِّزْقُ.
«التقتیر»: التضییق فی النفقة.
و «الرزق» فی اللغة: العطاء؛ و قیل: «هو الحظّ مطلقاً»؛ و قیل: «هو بالفتح مصدرٌ و بالکسر اسمٌ»(1) و العرف خصّصها بما ینتفع به الحیوان – یأکل أو یستعمل -؛ و قد تقدّم الکلام علیه فی اللمعة الأولى بما لامزید علیه، فلیرجع إلیه.
و اعلم! أنّ الرزق أعمّ من الرزق الصوریّ و المعنویّ، و انّ الإبتلاء للأنبیاء و الأولیاء بتقتیر الرزق سببه الحضور فی حضرته المقدّسة بالدعاء – کما یقول بعض العرفاء: «الدعاء یوجب الحظور و العطاء یوجب الصرف، و المُقام على الباب أشرف من الإنصراف بالمبار».و سببه الإبتهال و التضرّع و السؤال؛ کما قال أمیرالمؤمنین – علیه السلام -: «إنّ الله یبتلی العبد و هو یحبّه لیسمع تضرّعه و ابتهاله»(2)؛
و على هذا ما روی عنه – صلّى الله علیه و آله و سلّم – من طریق الخاصّة(3) و العامّة(4)، قال: «عرض علیَّ ربّی أن یجعل لی بطحاء مکّة ذهباً، فقلت: لا یا ربّ! و لکن أشبع یوماً و أجوع یوماً، فإذا جعت تضرّعت إلیک و ذکرتک، و إذا أشبعت شکرتک و حمدتک».قیل: «و أصحابنا ذکروا وجوهاً کثیرةً لهذا؛
<منها: إعظام مثوباتهم على الصبر و القناعة، لأنّه کلّما کانت المحنة عظمى کانت المثوبة علیها أجزل؛
و منها: إبتلاؤهم بالمتکبّرین و المکذّبین، لأنّهم لوکانوا على الحالة الموصوفة من الإتّساع فی الدنیا لسقط بلاؤهم بالصبر على أذى المسکنة من المکذّبین لهم و المستخفّین بشأنهم – کما قال أهل مدین لشعیب علیه السلام: (یَا شُعَیبُ مَا نَفقَهُ کَثِیراً مِمَّا تَقُولُ وَ إِنَّا لَنَرَاکَ فِینَا ضَعِیفاً وَ لَولاَ رَهْطُکَ لَرَجَمْنَاکَ وَ مَا أَنتَ عَلَینَا بِعَزِیزٍ)(5) -؛
و منها: إکرامهم و صیانتهم عن الإشتغال بالدنیا و التنعّم بطیّباتها، لما تقرّر من أنّ الدنیا
و الآخرة ضرّتان -: بقدر ما یقرب من إحداهما یبعد من الأخرى! -، و الأنبیاء -علیهم السلام – و من سلک سبیلهم و إن کانوا أکمل الخلق نفوساً و أقواهم إستعداداً لقبول الکمالات النفسانیّة إلّا أنّهم محتاجون إلى الریاضة التامّة بالإعراض عن الدنیا و طیّباتها – و هو الزهد الحقیقیّ – و إلى تطویع نفوسهم الأمّارة لنفوسهم المطمئنّة بالعبادة التامّة – کما هو المشهور من أحوالهم، صلوات الله علیهم -؛
و منها: تأسّی المسلمین و اقتداء المؤمنین بهم -علیهم السلام – فی الإعراض عن الدنیا إذا کانوا هم القدوة للخلق و محلّ الأسوة لهم»>(6)؛
إلى غیر ذلک من الوجوه الرکیکة! لانتقاضها بسلیمان و خلیل الرحمن – علیهما السلام – و سائر الصالحین من عباد الله؛ على أنّ الاقتصار فی کلام مثله – علیه السلام – على التقتیر فی الأرزاق الظاهریّة غیر لائقٍ بمن شأنه العصمة؛ فالأولى الإعراض عنها و الرجوع إلى ما ألهمنی الله -تعالى – من فضله السنیّ فی ذلک، و هو:
انّ المراد ب- «تقتیر الرزق و عدمه»: هو البسط و القبض المتداولان فیما بین أهل العرفان، المشار إلیهما فی القرآن فی قوله -تعالى -: (أَ لَمْ تَرَ إِلَى رَبِّکَ کَیفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَو شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاکِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَیهِ دَلِیلاً – ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَینَا قَبْضاً یَسِیراً)(7)
قیل: «اعلم! أنّ ماهیّات الأشیاء و حقائق الأعیان هی ظلال الحقّ و صفة عالمیّة الوجود المطلق، ف- «مدّها»: إظهارها باسمه النور الّذی هو الوجود الظاهر الخارجیّ الّذی یظهر به کلّ شیءٍ و یبرز عن کتم العدم إلى فضاء الوجود الإضافیّ؛ (وَ لَو شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاکِناً) أی: ثابتاً فی العدم الّذی هو خزانة جوده، أی: أمّ الکتاب و اللوح المحفوظ الثابت وجود کلّ شیءٍ فیها فی الباطن و الحقیقة، لاالعدم الصرف بمعنى اللاشیء، فانّه لایقبل الوجود أصلا. و ما لیس له وجودٌ فی الباطن و خزانة علم الحقّ و غیبه لمیکن وجوده أصلا فی الظاهر؛ و الإیجاد و الإعدام لیسا إلّا إظهار ما هو ثابتٌ فی الغیب و إخفاؤه فحسب، (وَ
هُوَ الظَّاهِرُ وَ البَاطِنُ وَ هُوَ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ). (ثُمَّ جَعَلنَا الشَّمسَ) -: شمس العقل – (عَلَیْهِ دَلِیلاً) یهدی إلى أنّ حقیقته غیر وجوده، و إلّا فلامغایرة بینهما فی الخارج؛ فلایوجد إلّا الوجود فحسب، إذ لو لم یکن وجوده لما کان شیءٌ، فلایدلّ على کونه شیئاً غیر الوجود إلّا العقل. (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَیْنَا) -: فنائه – (قَبْضاً یَسِیراً)، لأنّ کلّ ما یفنی من الوجودات فی کلّ وقتٍ فهو یسیرٌ بالقیاس إلى ما یبقى؛ و سیظهر کلّ مقبوضٍ عمّا قلیلٍ فی مظهرٍ آخر. و القبض دلیلٌ على أنّ الإفناء لیس بإعدامٍ محضٍ، بل هو منعٌ عن الإنتشار».
و قیل: «قوله -تعالى -: (أَ لَمْ تَر إِلَى رَبِّکَ) -… إلى آخره – إن کان الخطاب لنبیّنا – صلّى الله علیه و آله و سلّم – کان المراد ب- «الظلّ»: العالم کلّه، لأنّ ربّه هو الإسم الجامع لجمیع الأسماء؛ و إن کان الخطاب لکلّ أحدٍ فالمراد ب- «الظلّ»: ذلک الأحد الّذی هو بعض أجزاء العالم و مظهرٌ للإسم الّذی یربّه خاصّةً؛ (وَ لَو شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاکِناً) أی: یکون فیه بالقوّة و لم یتحرّک من القوّة إلى الفعل، (ثُمَّ جَعَلنَا الشَّمْسَ عَلَیهِ) – أی: على الظلّ الّذی هو أعیان الممکنات – (دَلِیلاً) یدلّ علیه و یظهره للبصر و البصیرة علماً و عیناً. و هو بلسان الإشارة اسمه النور، و هو عبارةٌ عن الوجود الحقّ باعتبار ظهوره فی نفسه و إظهاره لغیره فی العلم أو العین؛ (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ) – أی: الظلّ الّذی هو العالم – (إِلَینَا قَبْضاً یَسِیراً) أی: سهلاً هیّناً بالنسبة إلى مدّه و بسطه، فانّه فی مدّه لابدّ من إجتماع شرائط یکفی فی قبضه انتفاء بعضها».
أقول: و الحقّ انّ المراد من قوله -تعالى -: (أَ لَمْ تَرَ إِلَى رَبِّکَ کَیفَ مَدَّ الظِّلَّ) هو الوجود المنبسط و الحقّ المخلوق به الّذی مع کلّ شیءٍ بحسبه. و هو المرتبة الثالثة من الوجوه الّتی ذکرنا فی اللمعة الثامنة و العشرین مفصّلةً؛ فتذکّر تفهم!.
اللَّهُمَّ إِنَّکَ ابْتَلَیْتَنَا فِی أَرْزَاقِنَا بِسُوءِ الظَّنِّ، وَ فِی آجَالِنَا بِطُولِ الاَْمَلِ حَتَّى الَْتمَسْنَا أَرْزَاقَکَ مِنْ عِنْدِ الْمَرْزُوقِینَ، وَ طَمِعْنَا بِآمَالِنَا فِی أَعْمَارِ الْمُعَمَّرِینَ.
«الإبتلاء»: الإمتحان و الإختبار، و قد تقدّم الکلام علیه فی اللمعة الأولى و اللمعة السادسة؛ فلیرجع إلیه.
قیل: «و سوء الظنّ هنا عبارةٌ عن عدم الیقین بأنّ الأرزاق إنّما تکون من الله -سبحانه و تعالى -، و انّها صادرةٌ عن القسمة الربّانیّة المکتوبة بقلم القضاء الإلهیّ فی اللوح المحفوظ الّذی هو خزانة کلّ شیءٍ – کما قال فی محکم کتابه: (نَحْنُ قَسَّمْنَا بَیْنَهُمْ مَعِیشَتَهُمْ)(8) -، و أنّ حصولها إلى المرزوقین بمقتضى قسمته -تعالى، کما قال: (وَ إِنْ مِنْ شَیْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(9) -، فلاتزید فیه حیلة محتالٍ و لاینقص منه عجز عاجزٍ. فعدم الیقین بذلک إمّا شکٌّ فیه، أو اعتقادٌ راجحٌ بأنّ الأمر على خلاف ذلک؛ و کلٌّ منهما سوء ظنٍّ ناشٍ عن ضعف القلب لاستیلاء مرض الوهم علیه»(10)
<و «باؤه» للسببیّة؛ و قیل: «هی صلةٌ لل- «ابتلاء»، یعنی: انّک رمیتنا بسوء الظنّ فی أرزاقنا لتختبرنا، و کذا فیما بعده»؛
و لایخفى بعده!>(11) أی: بأن نظنّ انّه لایصل إلینا الرزق فوسوستنا النفس الأمّارة بالسوء بمنع الزکاة و أداء حقّ الله و الجمع من الحرام و الذخائر منه بسبب هذا الظنّ السوء. و نِعم ما قال بعض أهل الفرس:
چهل سال شد تا که عقل آزمود++
که روزى نبود آنکه روزى نبود
همان می طپد دل زخوف و هراس++
زهى بى مروّت! زهى ناسپاس!
قیل: «اعلم! أنّ سوء الظن بالله یرجع إلى القنوط من رحمته، بل هو عینه. و قد عدّ من الکبائر کما عدّ نقیضه من أعظم الأعمال. روی عن الصادق – علیه السلام – انّه قال: «قال رسول الله – صلّى الله علیه و آله و سلّم -: انّ آخر عبدٍ یؤمر به إلى النار، فإذا أمر به التفت،
فیقول الجبّار – جلّ جلاله -: ردّوه!، فیردّونه؛ فیقول له: لم التفتّ إلیّ؟
فیقول: یا ربّ! لم یکن ظنّی بک هذا!
فیقول: و ما کان ظنّک بی؟
فیقول: یا ربّ! کان ظنّی بک أن تغفر لی خطیئتی و تسکننی جنّتک!
قال: فیقول الجبّار: یا ملائکتی! لا و عزّتی و جلالی و آلائی و علوّی و ارتفاع مکانی ما ظنّ بی عبدی هذا ساعةً من خیرٍ قطّ!، و لوظنّ بی ساعةً من خیرٍ ما روعته بالنار، اجیزوا له کذبه و أدخلوه الجنّة!. ثمّ قال رسول الله – صلّى الله علیه و آله و سلّم -: لیس من عبدٍ یظنّ بالله -عزّ و جلّ – خیراً إلّا کان عند ظنّه به؛ و ذلک قوله -عزّ و جلّ -: (وَ ذَلِکُمْ ظَنُّکُمُ الَّذِی ظَنَنْتُمْ بِرَبِّکُمْ أَرْدَاکُمْ فَأَصبَحْتُمْ مِنَ الخَاسِرِینَ)(12)»(13) -(14)
<و «الآجال»: جمع أَجَل - بفتحتین -. و قد علمت انّه یطلق على مدّة العمر، و على الوقت الّذی ینقرض فیه.
و «الأمل»: توقّع حصول محبوبٍ للنفس فی المستقبل. و المراد ب- «طول الأمل فی الآجال»: توقّع امتداد مدّة العمر، أو تأخّر الوقت الّذی تنقرض فیه>(15)
و «الباء» للسببیّة – <أی: بسبب تطویلنا الآمال ابتلیتنا بالحرص على تأخّر الأجل و زیادة العمر -؛ و کونها هنا للصلة أظهر منه، لما تقدّم>(16)
<و «الإلتماس»: طلب الشیء ممّن یساوی الطالب رتبةً على سبیل التلطّف - کقولک لمن یساویک: افعل کذا أیّها الأخ ->(17)، أی: حتّى طلبنا أرزاقک المقدّرة علینا من الّذی
رزقتهم. و هذا ناشٍ من سوء ظنّنا بالأرزاق، إذ لولاه لکان العقل حاکماً بأنّ طلب المحتاج إلى المحتاج قبیحٌ!.
و «طمِعنا» – بالکسر – من طمع فی الشیء طمعاً – من باب تعب -: حرص علیه و رجاه.
و «الباء» فی «بآمالنا» للسببیّة.
و «المعمّرین»: جمع معمّر، اسم مفعولٍ من: عمّره الله تعمیراً أی: أطال عمره؛ أی: طمعنا بسبب آمالنا الطویلة فی أن نعمّر مثل أعمارهم و نعیش مثل ما عاشوا – کالعاد و العمالقة و سائر المعمّرین -.
<و قیل: «إنّا طمعنا بأمورٍ عظیمةٍ یتوقّف حصولها على أعمار المعمّرین»؛
و هو کما ترى!>(16)
و هذا أیضاً باعثٌ لازدیاد حرصنا و جدّنا و جهدنا فیکسب المال و جمعه لأجل تحصیل الرزق.
هذا ما ذکره العلماء الأعلام فی هذا المقام، و هو – کما ترى – لایسمن و لایغنی من جوعٍ!. و التحقیق الحقیق بالتصدیق فی هذا الفصل من الدعاء یبتنى على تمهید مقدّمةٍ؛ و هی: انّه قد عرفت سابقاً انّ لمعنىً واحدٍ و ماهیّةٍ واحدةٍ أنحاءٌ عدیدةٌ من الوجود بعضها أشرف و أعلى من بعضٍ؛ کماهیّة العلم و مفهومه، إذ من العلم ما هو عرضٌ – کعلم الإنسان بغیره -، و منه ما هو جوهرٌ – کعلمه بذاته -، و منه ما هو واجب الوجود – کعلمه تعالى بذاته -، و کماهیّة الجسم و معناه. یعنی الجوهر القابل للأبعاد له أنحاءٌ من الوجود أضعف و أدنى، و بعضها أشدّ و أقوى، فمن الجسم ما هو جسمٌ هو أرضٌ فقط أو ماءٌ أو هواءٌ أو نارٌ، کذلک و منه ما هو جمادٌ فیه العناصر الأربعة الموجودة بوجودٍ واحدٍ جمعیٍّ، لکنّه جمادٌ فقط من غیر تغذٍّ و نموٍّ و حسٍّ و حیاةٍ و نطقٍ، و منه ما هو جسمٌ متغذٍّ نامٍ مولّدٍ، فجسمیّته أکمل
من جسمیّة الجمادات و المعادن. و منه ما هو مع کونه جسماً حافظاً للصورة متغذّیاً نامیاً مولّداً حسّاساً ذو حیاةٍ حسّیّةٍ، و منه ما هو مع کونه حیواناً ناطقاً مدرکاً للمعقولات فیه ماهیّات الأجسام السابقة موجودةً بوجودٍ واحدٍ جمعیٍّ لاتضادّ بینها فی هذا الوجود الجمعیّ لکونه موجوداً على وجهٍ ألطف و أشرف، و هو وجود الإنسان.
و لا استبعاد فی ذلک، فان الأشیاء المتضادّة فی الخارج موجودةٌ فی الذهن بوجودٍ جمعیٍّ لاتضادّ بینهما. و کذا صفاتنا فینا زائدةٌ على وجوداتنا و فی الله -تعالى – عین ذاته -سبحانه -؛ إلى غیر ذلک من الأمثلة الّتی سبق ذکرها فی اللمعة الأولى.
ثمّ الإنسان یوجد فی عوالم متعدّدةٍ بعضها أشرف و أعلى، فمن الإنسان ما هو إنسانٌ طبیعیٌّ، و منه ما هو إنسانٌ نفسانیٌّ، و منه ما هو إنسانٌ عقلیٌّ؛
و أمّا الإنسان الطبیعیّ فله أعضاءٌ محسوسةٌ متباینةٌ فی الوضع، فلیس موضع العین موضع السمع و لاموضع الید موضع الرجل و لاشیء من الأعضاء فی موضع العضو الآخر؛
و أمّا الإنسان النفسانیّ فله أعضاءٌ متمایزةٌ لایدرک شیءٌ منها بالحسّ الظاهر، و إنّما یدرک بعین الخیال و الحسّ الباطن المشترک الّذی هو بعینه یبصر و یسمع و یشمّ و یذوق و یلمس. و تلک الأعضاء غیر متخالفة الجهات و الأوضاع، بل لاوضع لها و لاماهیّة. و لاتقع نحوها إشارةٌ حسّیّةٌ، لأنّها لیست فی هذا العالم و جهاته – کالإنسان الّذی رآه الإنسان فی النوم و النوم جزءٌ من أجزاء الآخرة و شعبةٌ منها، و لهذا قیل: «النوم أخ الموت»(18) -؛
و أمّا الإنسان العقلیّ فأعضاؤه روحانیّةٌ و حواسّه عقلیّةٌ، له بصرٌ و سمعٌ عقلیّان و ذوقٌ و شمٌّ و لمسٌ عقلیّةٌ؛
أمّا الذوق ف-: «أبیت عند ربّی یطعمنی و یسقینی»(19)؛
و أمّا الشمّ ف-: «إنّی لأجد ریح(20) الرحمن من جانب الیمن»(21)؛
و أمّا اللمس ف-: «وضع الله یده بکتفی -… الحدیث -»(22)
و کذلک له یدٌ عقلیّةٌ و قدم عقلیّةٌ و وجهٌ عقلیٌّ و جنبٌ عقلیٌّ.
و تلک الأعضاء و الحواسّ العقلیّة کلّها موجودةٌ بوجودٍ واحدٍ عقلیٍّ، و هذا هو الإنسان المخلوق على صورة الرحمن، و هو خلیفة الله فی العالم العقلیّ مسجود الملائکة؛
و بعده الإنسان النفسانیّ؛
و بعده الطبیعیّ.
و إذا تمهّد هذه المقدّمة فنقول: ماهیّة الرزق و معناه – و هو ما یتقوّم به الشیء – لها أنحاءٌ من الوجود بعضها أقوى و أکمل من بعضٍ بحسب عوالم متعدّدةٍ و مواطن متکثّرةٍ، فغذاء کلّ موجودٍ و رزقه من جنسه و بحسبه؛ فغذاء الجسم جسمانیٌّ، و غذاء الروح روحانیٌّ، و غذاء العقل عقلانیٌّ.
و لمّا کان له – علیه السلام – مرتبة جمع الجمعیّ و مظهریّة الوجود الإنبساطیّ فله مقاماتٌ متفاوتةٌ و مراتب متکاثرة، ففی مقام الجسم جسمانیٌّ، و فی مقام الروح روحانیٌّ، و فی مقام العقل عقلانیٌّ، و فی مقام الإله إلهیٌّ، فرزقه و غذاؤه – علیه السلام – أیضاً بحسب مراتبه و مقاماته متفاوتةٌ – کما مرّ -؛ فهذا الفصل من الدعاء صدر عنه – علیه السلام – فی حال کونه فی مقام الطبع و النفس؛ فتأمّل تفهّم!.
فائدةٌ
<قال ابن درید: «لاتعدّ العرب معمّراً إلّا من عاش مأةً و عشرین سنةً فصاعداً»(23) قال الطبیعیّون: «العمر الطبیعیّ للإنسان مأةٌ و عشرون سنة، لأنّ التجربة دلّت على أنّ غایة سنّ النموّ ثلاثون سنةً، و غایة سن الوقوف عشرةٌ، فهذه أربعون - کما قیل:
نشاط عمر باشد تا چهل سال(24) –
و یجب أن تکون غایة سن النقصان ضِعف الأربعین المتقدّمة، فتکون نهایة العمر مأةً و عشرین سنةً». قالوا: «و إنّما صار زمان الفساد ضِعف زمان الکون؛
أمّا من السبب المادّیّ، فلأنّ فی زمان نقصان البدن تغلب الیبوسة على البدن، فتتمسّک بالقوّة؛
و أمّا من السبب الفاعلیّ، فلأنّ الطبیعة تتأدّی إلى الأفضل و تتحامى عن الأنقص».
و زعم بعض المنجّمین انّ سبب کون نهایة العمر مأةً و عشرین سنةً هو انّ قوام العالم بالشمس، و سنونها الکبرى مأةٌ و عشرون سنةً.
و تعقّب بعضهم ذلک بأنّه لیس فی قول الطائفتین برهانٌ قطعیٌّ یدلّ على أنّ نهایة عمر الإنسان هذا القدر، أو قدرٌ معیّنٌ غیره.
و قد جاءت الکتب الإلهیّة باثبات الأعمار الطویلة للأمم السالفة؛ قال الله -تعالى – فی حقّ نوح: (فَلَبِثَ فِیهِمْ أَلفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِینَ عَاماً)(25)؛ و التوراة و الإنجیل مطابقان للقرآن العظیم فی إثبات الأعمار الطویلة للادمیّین. و الإصرار على إنکار ذلک دلیلٌ على الجهل – کما نشأ من أهل السنّة فی شأن المهدیّ علیه السلام(26) -.
و قال الشیخ أبوریحان البیرونیّ فی الکتاب المسمّى بالآثار الباقیة عن القرون الخالیة:
«و قد أنکر بعض أغمار الحشویّة و الدهریّة ما وصف من طول الأعمار الخالیة و خاصّةً فیما وراء زمان إبراهیم – علیه السلام -». و ذکر شیئاً من کلام المنجّمین ثمّ حکى عن ماشاءالله انّه قال فی أوّل کتابه فی الموالید: «یمکن أن یعیش أصحاب سِنی القِران الأوسط إذا اتّفق المیلاد عند تحویل القِران إلى الحمل و مثلّثاته، و کانت الدلالات على ما ذکرنا أن یبقى المولود سِنی القِران الأعظم – و هی تسعمأة سنة و ستّون سنةً بالتقریب – حتّى یعود القِران إلى موضعه»(27)؛ انتهى>(28)
و بالجملة الاستبعاد فی ذلک فی غایة السقوط!، إذ الأدلّة الطبیعیّة و النجومیّة قائمةٌ بوجود الأعمار الطویلة، مضافةً إلى أخبار الکتب الإلهیّة و الأخبار المعصومیّة و النقلة الموثّقة. فمن أنکر تطاول الأعمار و امتدادها مطلقاً مستدلّاً بأنّه غیر مقدورٍ؛
فهو ظاهر الفساد! لأنّه مَن بدأ الخلق مِن غیر شیءٍ فأمکنه إطالة الأعمار و امتدادها بأن یعطی البنیة إستعداداً تبقى معه مدّةً کثیرةً.
قیل: «و أمّا المعنى من بقائهم فلایخلو من أحد قسمین:
إمّا أن یکون بقاؤهم فی مقدور الله -تعالى -؛
أو لایکون؛
و مستحیلٌ ان یخرج عن مقدور الله -تعالى -، لأنّه من بدأ الخلق من غیر شیءٍ و أفناه ثمّ یعیده بعد الفناء لابدّ أن یکون البقاء فی مقدوره -تعالى -، فلایخلو من قسمین:
إمّا أن یکون راجعاً إلى اختیار الله -تعالى -؛
أو إلى اختیار الناس؛ و لایجوز أن یکون راجعاً إلى اختیار الناس، لأنّه لوصحّ ذلک منهم لجاز لأحدنا أن یختار البقاء لنفسه و لولده، و ذلک غیر حاصلٍ لنا غیر داخلٍ تحت مقدورنا.
و أمّا من قال انّه ممکنٌ مقدورٌ و لکن خارجٌ عن العادة؛
فجوابه: انّ العادة تختلف بحسب الأمکنة و الأزمنة والأدوار الفلکیّة – کما لایخفى على ذوی البصیرة -».
فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ هَبْ لَنَا یَقِیناً صَادِقاً تغْضِینَا بِهِ مِنْ مَؤُونَةِ الطَّلَبِ، وَ أَلْهِمْنَا ثِقَةً خَالِصَةً تُعْفِینَا بِهَا مِنْ شِدَّةِ النَّصَبِ.
<«الیقین»: هو العلم بالشیء ضرورةً و استدلالاً بعد أن کان صاحبه شاکّاً فیه، و لذلک لایوصف الباری -تعالى - بأنّه متیقّنٌ؛ و لایقال: تیقّنت انّ السماء فوقی!؛ و قد تقدّم الکلام علیه(29)
و «الإغضاء» فی الأصل: ادناء الجفون، ثمّ استعمل فی التغافل و الصدود؛ و المعنى هنا: تصدّنا به عن مؤونة الطلب. و فی روایةٍ: «تکفینا»(30)، بدل «تغضینا». و «الإلهام»: ما یلقى فی القلب بطریق الفیض.
و «الثقة»: الإئتمان؛ یقال: وثِقت به أثِق – بالکسر فیهما -: إذا ائتمنته.
و «الخالصة»: الّتی لایشوبها شکٌّ أو وهمٌ.
و «الإعفاء»: الإقالة.
و «النصب»: التعب>(31) و هذه الجملة من الدعاء متعلّقةٌ ب- «الابتلاء»، أی: إذا کان الأمر فی الإبتلاء کذلک فأطلبُ منک یقیناً صادقاً تصدّنا به عن مؤونة الطلب؛ أو تکفینا بسبب یقین وصول الررزق من مشقّة الطلب ثقةً – أی: إئتماناً – خالصةً من شوائب الوسواس و الإضطراب و سوء الظنّ فی وصول الرزق؛ و تعفینا بسبب تلک الثقة من شدّة التعب.
بیان ذلک: انّه إذا حصل لأحدٍ بالبرهان أو الهدایة الخاصّة أو الکشف الیقینُ بالله و وحدانیّته و علمه و قدرته و تقدیره للأشیاء و تدبیره فیها و حکمته الّتی لایفوتها شیءٌ من المصالح و رأفته بالعباد و إحسانه إلیهم ظاهراً و باطناً و تقدیره کمالات الأعضاء الظاهرة و الباطنة و تدبیر منافعها بلااستحقاقٍ و لا مصلحةٍ منهم و من غیرهم و إیصال الأرزاق إلیهم – حیث لاشعور لهم بطرقها و لاقدرة لهم على تحصیلها و اکتسابها مع عدم جوده بوجهٍ من الوجوه – علم انّ من کان کذلک کان قادراً على مستقبل أموره و مهمّاته و إیصال رزقه و مطلوبه؛ فلاینظر إلى الأسباب و الوسائط و لایتعلّق قلبه بها أصلا، فیستریح من مؤونة الطلب. و کذلک من حصلت له ثقةٌ خالصةٌ بالله -تعالى – فی جمیع أموره اعتمد علیه و وثق بکفایته و تمسّک بحوله و قوّته و ترقّب التوفیق و الإعانة منه دون الإعتماد على نفسه و حوله و قوّته و قدرته و علمه و ما یظنّه من الأسباب الضروریّة و العادّیّة و غیرها، فلاینصب کلّ النصب فی السعی لاکتساب الرزق؛ و هذا هو معنى التوکّل على الله -سبحانه، کما سبق تحقیقه؛ فتذکّر! -.
وَ اجْعَلْ مَا صَرَّحْتَ بِهِ مِنْ عِدَتِکَ فِی وَحْیِکَ، وَ أَتْبَعْتَهُ مِنْ قَسَمِکَ فِی کِتَابِکَ قَاطِعاً لاِهْتمامِنَا بِالرِّزْقِ الَّذِی تَکَفَّلْتَ بِهِ، وَ حَسْماً لِلاِشْتِغَالِ بِمَا ضَمِنْتَ الْکِفَایَةَ لَهُ
«التصریح»: التبیین.
و «العدة» – بتخفیف الدال المهملة -: الوعد.
و «الوحی»: مصدر وحیت إلیه الکلام: إذا ألقیته إلیه لیعلمه؛ و: أوحیت إلیه – بالألف -: مثله؛ ثمّ غلب استعمال «الوحی» فیما یلقى إلى الأنبیاء من عند الله – کما مرّ فی أوّل الکتاب تحقیقه -. و المراد به هنا الموحى – کالقول بمعنى المقول -، أی: فیما أوحیته، و هو القرآن.
و «أتبعته» بمعنى: قفّیته، أی: جعلته تابعاً له.
و «القَسَم» – بفتحتین -: اسمٌ من أقسم بالله: إذا حلف.
و «قاطعاً»: مفعول ثانٍ ل- «اجعل»، أی: اجعل تلک الوعدة و ذلک القسم قاطعاً لاهتمامنا- من: اهتمّ بالأمر اهتماماً: اعتنى به -.
<و «تکفّلت» بالمال: التزمت به و ألزمته نفسی.
و «الحسم»: القطع، و منه قیل للسیف: حسامٌ، لأنّه قاطعٌ لما یأتی علیه، و قول العلماء: «حسماً للباب» أی: قطعاً للوقوع کلّیّاً. و إسناد القطع و الحسم لل- «عدة» و «القَسَم» مجازٌ عقلیٌّ؛ أی: اجعلهما سببین لهما>(32) و المعنى: اجعل وعدک بالرزق المصرّح فی القرآن و قسمک الّذی قفّیته و اتبعته فی أثر ذلک الوعد سبباً لقطع اهتمامنا بطلب الرزق الّذی أنت متکفّلٌ بایصاله إلینا حتّى إذا لاحظنا وعدک بالرزق – الّذی تکفّلت به بالوعد السابق و بالقسم الّذی بعده – قعدنا عن طلبه و استرحنا عن ارتکاب المشقّة و الدناءة فی تحصیله؛ و اجعل ذلک الوعد و القسم أیضاً سبباً لقطع اشتغالنا ممّا «ضمنت الکفایة له»، أی: بطلب الرزق الّذی أنت ضمنت کفایته بالقسم الّذی مسبوقٌ بالوعد.
ثمّ أشار – علیه السلام – بالوعد و القسم بقوله:
فَقُلْتَ – وَ قَوْلُکَ الْحَقُّ الاَصْدَقُ – وَ أَقْسَمْتَ – وَ قَسَمُکَ الاَْبَرُّ الاَْوْفَى -: (وَ فِی السَّمَاءِ رِزْقُکُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ)؛ ثُمَّ قُلْتَ: (فَوَ رَبِّ السَّمَاءِ وَ الاَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّکُمْ تَنْطِقُونَ).
«الفاء» عاطفةٌ.
و «قلت» عطفٌ على «صرّحت»، من قبیل عطف المفصّل على المجمل.
و «قولک الحقّ» جملةٌ معترضةٌ بین القول و مقوله لامحلّ لها من الإعراب. و تقریر>(33)، أی: قولک من الأقوال الصادقة، فانّه -سبحانه – أصدق القائلین،< فائدتها مضمون
الجملة (وَ مَنْ أَصدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِیثاً)(34) ؟.
و «أقسم» یقسم إقساماً: حلف.
و «الأبرّ»: الأصدق؛ یقال: أبرّ قسمه: إذا أمضاه على الصدق.
و «الأوفى»: الأتم؛ أمّا الوعدة کما فی قوله -تعالى -: (وَ فِی السَّمَاءِ رِزْقُکُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ)(35) و هو فی محلّ نصبٍ على المفعولیّة لأنّه مقول القول، أی: أسباب رزقکم بارسال الغیث و المطر علیکم فیخرج به أنواع الأقوات و الملابس و المنافع.
قیل: «معناه: و فی السماء تقدیر رزقکم، أی: ما قسّمه لکم مکتوبٌ فی أمّ الکتاب الّذی هو فی السماء. و فی حدیث أهل البیت -علیهم السلام -: «أرزاق الخلائق فی السماء الرابعة تنزّل بقدرٍ و تبسط بقدرٍ»(36)؛
و قیل: «المراد بالسماء: السحاب، و بالرزق: المطر؛ و هو المرویّ عن الصادق – علیه السلام – قال: «الررزق: المطر ینزّل من السماء فیخرج به أقوات العالم»(37)
قوله – علیه السلام -: «(وَ مَا تُوعَدُونَ)»، قیل: «هو الثواب و العقاب»؛
<و قیل: «الجنّة وحدها، فانّها فوق السماء و سقفها العرش، و هو المرویّ عن الرضا - علیه السلام -(38) و به تندفع شبهة الأشاعرة الّتی حدثهم على إنکار وجود الجنّة فی الدنیا حتّى ذهبوا إلى أنّ الله -تعالى - سیخلقها فی القیامة!. و حاصلها: انّه -تعالى - قد وصفها بأنّ (عَرْضُهَا کَعَرضِ السَّمَاءِ وَ الأَرضِ)(39)، فلوکانت مخلوقةً الآن أین تکون(40) ؟
و الجواب ظاهرٌ – کما عرفت -.
و أمّا النار ففی بعض الأخبار انّ مکانها تحت طبقات الأرض السابعة(41)، و ما یشهد من المیاه الحارّة فی رؤوس الجبال فهو من قبحها؛ و قد ورد النهی فی الحدیث عن الاستشفاء به – کما تفعله العامّة من الناس -.
و فی الأخبار المتضمّنة لحکایة المعراج تصریحٌ بأنّها فی السماء(42)؛ و لا منافاة بینهما، لتعدّد النیران کتعدّد الجنان>(16) روی عن علیٍّ – علیه السلام -: «انّ النیران بعضها فوق بعضٍ، فأسفلها جهنّم، و فوقها لظى، و فوقها الحطمة، و فوقها سقر، و فوقها الجحیم، و فوقها السعیر، و فوقها الهاویة»(43)؛ و سیجیء زیادة بیانٍ فی الدعاء الثانی و الثلاثین –
إنشاءتعالى -.
القمّی(44): «(وَ مَاتُوعَدُونَ) من أخبار الرجعة و القیامة و الأخبار الّتی فی السماء».
و أمّا القسم کما فی قوله -تعالى -: (فَوَ رَبِّ السَّمَاءِ وَ الاَرضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثلَ مَا أَنَّکُمْ تَنْطِقُونَ)(45)؛ <أقسم -سبحانه - بنفسه انّ ما ذکر من أمر الرزق و الآیات و ما قضى به فی
الکتاب حقٌّ مثل حقّیّة نطقکم الّذی تنطقون به، فکما لاتشکّون فی نطقکم فینبغی أیضاً أن لاتشکّوا بحصول ما وعدتم>(16) و فی الکلام مبالغاتٌ من القسم و «انّ» و «اللام» و التشبیه.
فان قیل: المبالغة فی مقابلة الإنکار، فمَن المنکر هنا؟
قلت: المنکر هو النفس الأمّارة بالسوء، و هی من أشدّ المنکرین!، و لذا بالغ -سبحانه – مبالغاتٍ شتّى، و لذلک عدّ النبی – صلّى الله علیه و آله و سلّم – الجهاد مع النفس الجهاد الأکبر!(46)
فان قلت: لم شبّه حقّیّة وعده بحقّیّة وعدة بعض العباد بعضاً مع أنّ حقّیّة وعده أتمّ و أشهر؟
قلت: الغرض من التشبیه هنا عائدٌ إلى المشبّه به دون المشبّه، و هو هنا إبهام أنّه أتمّ من المشبّه فی وجه الشبه – و هوالحقّیّة – کما فی التشبیه المغلوب. و ذلک لأنّ أکثرهم – لألفهم بالمحسوسات – لایرتقی فهمهم عن عالم الحسّ، و لذا یطمئنّون بوعدة بعضهم تکفّل رزقهم أشدّ من إطمینانهم بوعدة الله إیّاهم!.
<قیل: «لمّا نزلت هذه الآیة قالت الملائکة: هلکت بنوآدم!، أ غضّبوا الربّ حتّى أقسم لهم على أرزاقهم؟!».
و نقل جارالله فی الکشّاف عن الأصمعیّ قال: «أقبلت من جامع البصرة و طلع(47) أعرابیٌّ على قعودٍ(48)، فقال: ممّن الرجل؟
قلت: من بنی أصمع،
قال: من أین أقبلت؟
قلت: من موضعٍ یتلى فیه کلام الرحمن،
قال: أتل علیّ.
فتلوت (وَ الذَّارِیَاتِ)(49)، فلمّا بلغت قوله -تعالى -: (وَ فِی السَّمَاءِ رِزْقُکُمْ)(35) قال: حسبک!، فقام إلى ناقته فنحرها و وزعها على من أقبل و أدبر، و عمد إلى سیفه و قوسه فکسرهما و ولّى!، فلمّا حججت مع الرشید طفقت أطوف، فإذا أنا بمن یهتف بی بصوتٍ دقیقٍ، فالتفتّ فإذا أنا بالأعرابیّ قد نحل و اصفرّ!، فسلّم علیّ و استقرأ السورة، فلمّا بلغت الآیة صاح و قال: وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّاً. ثمّ قال: و هل غیر ذلک(50) ؟
فقرأت: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَ الاَرضِ أَنَّهُ لَحَقٌّ)، فصاح و قال: یا سبحان الله! من ذا الّذی غضّب الحقّ الجلیل(51) حتّى حلف! لم یصدّقوه بقوله حتّى ألجأوه إلى الیمین!، قالها ثلاثاً و خرجت معها نفسه!!»(52)
و قیل: «التشبیه باعتبار عدم العلم، یعنی: کما أنّکم لاتعلمون مواضع خروج النطق و کیفیّة حصوله فکذلک الرزق – کما قال صلّى الله علیه و آله و سلّم: «أبی الله أن یجعل رزق المؤمن إلّا من حیث لایحتسب»(53) -»؛
و قیل: «هو باعتبار الزیادة و النقصان، یعنی: کما انّ الرزق یزید و ینقص بسبب بثّه و الحرص علیه، فکذا الرزق ینقص و یزید بالإنفاق منه و إمساکه؛ و حینئذٍ ف- «النطق» هنا عبارةٌ عن العلوم و المعارف»؛
و الأظهر هو الأوّل.
و أمّا إعراب «مثل» فهی مرفوعةٌ فی نسخة ابن إدریس على أنّها صفةٌ ل- «حقّ»، و
لایضرّه الإضافة إلى المعرفة لتوغّلها فی الإبهام؛ و منصوبةٌ فی الأصل؛
إمّا على أنّه أضیف إلى مبنیٍّ فبنی – کما بنی «حین» فی قوله:
عَلَى حِینَ عَاتَبتُ الْمَشِیبَ عَلَى الصِّبَا(54) -؛
أو على أنّه جعل مع «ما» بمنزلة کلمةٍ واحدةٍ، فبنیت على الفتح لذلک؛
أو على أنّه حالٌ من المستتر فی «الحقّ» – و هو العامل -، لأنّه من المصادر الّتی وصف بها؛
أو على أنّه وصفٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أی: انّه لحقٌّ حقّاً مثل نطقکم.
هذا آخر اللمعة التاسعة و العشرین من لوامع الأنوار العرشیّة فی شرح الصحیفة السجّادیّة؛ و قد وفّقنی الله -تعالى – لاتمامها لستّةٍ خلت من جمادى الأولى سنة 1231.
1) راجع: «لسان العرب» ج 10 ص 115 القائمة 1، «تاج العروس» ج 13 ص 162 القائمة 1.
2) لم أعثر علیه، و قال ابن أبی الحدید: «قیل: انّ فیما أنزله الله -تعالى – من الکتب القدیمة: انّ الله یبتلی العبد…»؛ راجع: «شرح نهج البلاغة» ج 6 ص 193.
3) راجع: «الکافی» ج 8 ص 131 الحدیث 102، «مستدرک الوسائل» ج 16 ص 215 الحدیث19638، «الأمالی» – للطوسی – ص 693 الحدیث 1472، «جامع الأخبار» ص 108.
4) راجع: «البیان و التعریف» ج 1 ص 29، «شعب الإیمان» ج 7 ص 310، «الزهد» -لابن المبارک – ج 1 ص 54، «الفردوس بمأثور الخطاب» ج 3 ص 65 الحدیث 4183.
5) کریمة 91 هود.
6) قارن: «ریاض السالکین» ج 4 ص 314.
7) کریمتان 45، 46 الفرقان.
8) کریمة 32 الزخرف.
9) کریمة 21 الحجر.
10) هذا قول العلّامة المدنی، راجع: «ریاض السالکین» ج 4 ص 317.
11) قارن: «نورالأنوار» ص 146.
12) کریمة 23 فصّلت.
13) راجع: «تفسیر القمّی» ج 2 ص 264، «وسائل الشیعة» ج 15 ص 231 الحدیث 20354،«مستدرک الوسائل» ج 11 ص 249 الحدیث 12899، «ثواب الأعمال» ص 172.
14) هذا قول محدّث الجزائری، راجع: «نورالأنوار» ص 146.
15) قارن: «ریاض السالکین» ج 4 ص 318.
16) قارن: «نورالأنوار» ص 147.
17) قارن: «ریاض السالکین» ج 4 ص 319.
18) راجع: «مستدرک الوسائل» ج 5 ص 123 الحدیث 5484، «بحارالأنوار» ج 84 ص 173،«مسکّن الفؤاد» ص 77.
19) راجع: «بحارالأنوار» ج 6 ص 207، «عوالی اللئالی» ج 2 ص 333 الحدیث 1، «المناقب» ج1 ص 214.
20) المصدر: نفس.
21) راجع: «مجموعة ورّام» ج 1 ص 154. و انظر أیضاً: «عوالی اللئالی» ج 4 ص 97 الحدیث135، «کشف الغمّة» ج 1 ص 261.
22) لم أعثر علیه، و فی إرشاد القلوب: وَ عَلِیٌّ وَاضِعٌ أَقْدَامَهُ++فِی مَکَانٍ وَضَعَ اللَّهُ یَدَهُ راجع: «إرشاد القلوب» ج 2 ص 230، و انظر: «المناقب» ج 2 ص 137.
23) لم أعثر علیه فی جمهرة اللغة. و ابن درید فی هذا الکتاب اقتصر على أن قال: «و عمّرک الله تعمیراً: إذا دعا له بطول العمر، و سمّی الرجل بهذا معمّراً»؛ راجع: «جمهرة اللغة» ج 2 ص387 القائمة 2.
24) المصدر: – کما قیل… سال.
25) کریمة 14 العنکبوت.
26) المصدر: – کما نشأ… السلام.
27) راجع: «الآثار الباقیة عن القرون الخالیة» ص 78.
28) قارن: «ریاض السالکین» ج 4 ص 320.
29) المصدر: – و قد… علیه.
30) و هذه هی الروایة المعروفة کما جعلناها فی المتن.
31) قارن: «ریاض السالکین» ج 4 ص 327.
32) قارن: نفس المصدر و المجلّد ص 331.
33) قارن: نفس المصدر أیضاً ص 332.
34) کریمة 87 النساء.
35) کریمة 22 الذاریات.
36) راجع: «بحارالأنوار» ج 10 ص 134، ج 33 ص 235، «تفسیر القمّی» ج 2 ص 271.
37) راجع: «تفسیر القمّی» ج 2 ص 330.
38) قال الجزائریّ: «و فی الحدیث: انّ الجنّة فوق السماء و سقفها العرش»؛ راجع: «القصص»ص 43.
39) کریمة 21 الحدید.
40) قال القوشجی: «جمهور المسلمین على أنّ الجنّة و النار مخلوقتان الآن، خلافاً لأکثرالمعتزلة…»، ثمّ ذکر فی سرد أدلّتهم هذا الدلیل بعینه؛ راجع: «شرح القوشجی» على تجریدالإعتقاد ص 392، و هذا کما ترى لایلائم ما فی المتن. و قال الفاضل السیوری: «و منع أبوهاشم و القاضی عبدالجبّار من وجودهما الآن»؛ راجع: «اللوامع الإلهیة» ص 424. والظاهر انّ الشریف الرضی أیضاً ذهب إلى هذا القول، راجع: «حقائق التأویل» ص 245، ولمزید التحقیق راجع: «قواعد العقائد» ص 224، «شرح المواقف» ج 8 ص 584.
41) کما عن النبیّ – صلّى الله علیه و آله و سلّم -: «من خان جاره بشبرٍ من الأرض طوّقه الله یوم القیامة إلى الأرض السابعة حتّى یدخل النار»، راجع: «مستدرک الوسائل» ج 8 ص 422الحدیث 9872.
42) کما عن مولانا الرضا – علیه السلام -: «انّ رسول الله قد دخل الجنّة و رأى النار لمّا عرج به إلى السماء»؛ راجع: «بحارالأنوار» ج 8 ص 119.
43) راجع: «بحارالأنوار» ج 8 ص 245، و لم أعثر علیه فی غیره.
44) راجع: «تفسیر القمّی» ج 2 ص 330.
45) کریمة 23 الذاریات.
46) راجع: «الکافی» ج 5 ص 12 الحدیث 3، «وسائل الشیعة» ج 15 ص 161 الحدیث20208، «بحارالأنوار» ج 64 ص 360.
47) الکشّاف: فطلع.
48) الکشّاف: + له.
49) کریمة 1 الذاریات.
50) الکشّاف: هذا.
51) الکشّاف: أغضب الجلیل.
52) راجع: «تفسیر الکشّاف» ج 4 ص 17.
53) لم أعثر علیه، و روی: «أبى الله أن یرزق عبده المؤمن إلّا من حیث لایحتسب»، راجع: «مجموعة ورّام» ج 1 ص 168.
54) تمامه: وَ قُلْتُ أَلَّماً أَضحُ وَ الشِّیبُ وَازِعُ و البیت للنابغة الذبیانی، راجع: «دیوانه» ص 110.