بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد الله الّذی بید قدرته الحیاة و الممات، و بدون إذنه لایخرج الشجر من النواة؛ و الصلاة و السلام على نبیّه الّذی بحیطة تصرّفه الجماد و الحیوان و النبات، و على آله و أهل بیته الّذین بسببهم یحصل لشریعته الدوام و الثبات.
و بعد؛ فیقول العبد المفتقر إلى رحمة ربّه فی الحیاة الدنیویّة و الأخرویّة محمّد باقر بن السیّد محمّد من السادات الموسویّة: هذه اللمعة الأربعون من لوامع الأنوار العرشیّة فی شرح الصحیفة السجّادیّة – صلوات الله علیه و على آبائه و أبنائه مادام الحیاة السرمدیّة للعقول المجرّدة القدسیّة -.
وَ کَانَ مِنْ دُعَائِهِ – عَلَیْهِ السَّلاَمُ – إِذَا نُعِیَ إِلَیْهِ مَیِّتٌ، أَوْ ذَکَرَ الْمَوْتَ.
«نعی» المیّت: الإخبار بموته؛ یقال: نَعَیت المیّت نعْیاً – من باب منع -: أخبرت بموته، فهو منعیٌّ. و المیّت – بالتشدید – یطلق على الحیّ الّذی سیموت – کما قال تعالى: (إِنَّکَ مَیِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَیِّتُونَ)(1) -، و على من مات؛ و بالتخفیف لایطلق إلّا على من قد مات(2)
قیل: «الموت: تعطیل الحواسّ».
و قیل: «فراق البدن»؛
و قیل: «إزهاق الروح»؛
و قال الأطبّاء و الطبیعیّون: «الموت إبطال القوى الطبیعیّة و زوال الحرارة الغریزیّة»؛
و قیل: «الموت کیفیّةٌ وجودیّةٌ یخلقها الله -تعالى – فی الحیّ، فهو ضد الحیاة، لقوله -تعالى -: (خَلَقَ الْمَوتَ وَ الْحَیَاةَ)(3)؛ و «الخلق» لکونه بمعنى الایجاد لایتصوّر إلّا فیما له وجودٌ»؛
و أجیب ب-: انّ معنى «الخلق» هنا: التقدیر، لا الإیجاد. أو المراد: إحداث أسبابه – على حذف مضافٍ -.
و قیل: «الموت: عدم الحیاة عمّا من شأنه أن یکون حیّاً»؛
و قیل: «هو عبارةٌ عن نقل الروح من الدنیا إلى الآخرة»؛
و قیل: «عبارةٌ عن الإنتقال من صورةٍ إلى أخرى»(4)؛
و قال بعض العرفاء: «عند التحقیق هو إسقاط إضافة الوجود إلى المهیّة و مشاهدة الوجود الحقّ على صرافة وحدته»؛ انتهى.
و بالجملة الموت لیس أمراً بعدمنا، بل یفرّق بیننا و بین ما هو غیرنا و غیر صفاتنا اللازمة!؛ و لهذا ورد فی الحدیث النبویّ – صلّى الله علیه و آله و سلّم -: «خلقتم للبقاء لا للفناء»(5)، و فی لفظٍ آخر: «خلقتم للأبد و انّما تنقلون من دارٍ إلى دارٍ»(6)
و الدلیل على ذلک: انّ الممکنات الموجودة واجبةٌ بالغیر، و إعدام الواجب بالغیر من الممتنعات مادام ذلک الغیر باقیاً؛ و دوام ذلک الغیر معلومٌ – لأنّه واجب الوجود بالذات -.
و أیضاً: فانّ کلّ ما یعدم بعد وجوده فانّما یعدم بسببٍ، و سبب عدم الشیء إمّا عدم أحد أسبابه الأربعة -: الفاعل و الغایة و المادّة و الصورة -؛
أو ورود أمرٍ وجودیٍّ مضادٍّ له على ذاته أو على مادّته، و النفس فاعلها و غایتها هو الله -سبحانه – باستخدام بعض ملائکته الباقیة بإبقاء الله -تعالى – إیّاه، و لیس لها مادّةٌ – لتجرّدها -، و لاصورةٌ – لأنّها جوهرٌ صوریٌّ، فصورتها ذاتها لاصورة أخرى -؛ و إذ لامادّة لها فلاضدّ لها. و کلّ أمرٍ وجودیٍّ یتحقّق فی النفس فلایکون إلّا من قبیل العلوم و التصوّرات النفسانیّة و التأویلات الفکریّة، فموت البدن لوکان مؤثّراً فی بطلان النفس لکان ذلک عند تصوّر النفس لها و خطوره بالبال؛ ثمّ انّ کثیراً مّا تتصوّر أنفسنا موت البدن و لم نتضرّر أصلا، فکیف یکون سبباً لهلاکها – و شرط الحدوث لایجب أن یکون شرط البقاء-؟!.
و التحقیق: انّ البدن المحسوس أمرٌ مرکّبٌ من جواهر متعدّدةٍ ظهرت من إجتماعها الأبعاد الثلاثة، مع طبیعةٍ لها أعراضٌ لازمةٌ أو مفارقةٌ. ثمّ إذا بلّغنا الأجل الّذی أجّل لنا و تلاشى هذا الترکیب بالموت رجع کلّ جوهرٍ من جواهره إلى أصله و عالمه مفردةً؛ أمّا الأرواح فإلى مرجع الأرواح – (إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَیْهِ رَاجِعُونَ)(7) -؛
و أمّا الأشباح فإلى التراب الرمیم – (مِنْهَا خَلَقْنَاکُمْ وَ فِیهَا نُعِیدُکُمْ)(8) -؛ و بطلت الأعراض الدنیویّة و اضمحلّت الهیئات البدنیّة – لعدم جواز الإنتقال لها من موضع الدنیا إلى موضع الآخرة -.
ثمّ إذا جاء وقت العود و البعث بأمر الله رکّب الجسم من أصول تلک الجواهر و صورها
من دون مادّةٍ دنیویّةٍ ترکیباً لایقبل الفساد؛ فیکون الجسم الأخرویّ مجرّد جواهر بدون أعراض هذه الدنیا و لامادّتها.
قال الراغب: «أنواع الموت بحسب أنواع الحیاة:
الأوّل(9): ما هو بازاء القوّة النامیة الموجودة فی الإنسان و الحیوان(10) و النبات، نحو قوله -تعالى -: (وَ أَحْیَیْنَا بِهِ بَلْدَةً مَیْتاً)(11)؛
الثانی: زوال القوّة الحسّاسة(12)، قال -تعالى -: (وَ یَقُولُ الاِنْسَانُ أَ إِذَا مَا مِتُّ لَسَوفَ أُخْرَجُ حَیّاً)(13)؛
الثالث: زوال القوّة العاقلة – و هی الجهالة -، نحو: (أَ وَ مَنْ کَانَ مَیْتاً فَأَحْیَیْنَاهُ)(14)؛ و إیّاه قصد بقوله -تعالى -: (إِنَّکَ لاَتُسْمِعُ الْمَوتَى)(15)؛
الرابع: الحزن المکدّر للحیاة، و إیّاه عنی(16) بقوله -تعالى -: (وَ یَأْتِیهِ الْمَوتُ مِنْ کُلِّ مَکَانٍ وَ مَا هُوَ بِمَیِّتٍ)(17)؛
الخامس: المنام، فقد قیل(18): «النوم موتٌ خفیفٌ و الموت نومٌ ثقیلٌ»، و على هذا النحو سمّاهما الله «توفّیاً» فقال: (اللَّهُ یَتَوَفَّى الاَنْفُسَ حِینَ مَوتِهَا وَ الَّتِی لَمْ تَمُتْ فِی مَنَامِهَا)(19)»(20)؛ انتهى.
و التحقیق انّ الحیاة هی ماتکون باعثاً للفعل و الإدراک، و هما تابعان للوجود – بل هما
عین الوجود -، فکلّ ما وجوده أقوى و أشرف فإدراکه أتمّ و فعله أحکم، فحیاته أشرف. و الحیاة فی بعض الأشیاء ذاتیّةٌ، و فی بعضها عرضیّةٌ، فحیاة الجسم بالمعنى الّذی هو مادّةٌ للحیوان عرضیّةٌ، و بالمعنى الّذی هو نوع هذا النوع ضروریّةٌ ذاتیّةٌ؛ و کذا حیاة نفس الحیوان ضروریّةٌ ذاتیّةٌ – أی: ما مادام الذات – و لیس ضروریّةً أزلیّةً – و الفرق بین الضرورتین ثابتٌ فی علم المیزان -.
و یعلم من هذا انّ معنى الحیوان غیر معنى الحیّ، لأنّ الحیاة الّتی فی الحیوان نقیضها الموت، و الحیاة الّتی بلاترکیب مادّةٍ و صورةٍ نقیضها الجهل المطلق و العدم الصرف.
إذا عرفت هذا فالموت المقابل لها أیضاً کذلک، فالموت لایکون للمجرّدات؛ فتبصّر!.
ثمّ اعلم! أنّ العلم هو الحیاة الأشرف، و الجهل هو الموت الأکبر؛ و قد ذکر الله -تعالى – فی کتابه العلم و الجهل و سمّاهما حیاةً و موتاً کما سمّاهما نوراً و ظملةً.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ اکْفِنَا طُولَ الاَْمَلِ، وَ قَصِّرْهُ عَنَّا بِصِدْقِ الْعَمَلِ حَتَّى لاَنُوَمِّلَ اسْتِتَْمامَ سَاعَةٍ بَعْدَ سَاعَةٍ، وَ لاَاسْتِیفَاءَ یَوْمٍ بَعْدَ یَوْمٍ، وَ لاَاتِّصَالَ نَفَسٍ بِنَفَسٍ، وَ لاَلُحُوقَ قَدَمٍ بِقَدَمٍ. وَ سَلِّمْنَا مِنْ غُرُورِهِ، وَ آمِنَّا مِنْ شُرُورِهِ.
«الأَمَل» – محرّکةً – هو: الرجاء، و حقیقته ارتیاج النفس لانتظار ما هو محبوبٌ عندها. فهو حالةٌ لها تصدر عن علمٍ و یقتضی عملاً. و قال بعضهم: «أکثر مایستعمل الأمل فیما یستعدّ حصوله، فانّ من عزم على سفرٍ إلى بلدٍ بعیدٍ یقول: آملت الوصول إلیه، و لا: طمعت القرب منه، فانّ الطمع لایکون إلّا فیما قرب حصوله. و قد یکون «الأمل» بمعنى الطمع، فانّ الراجی قد یخاف أن لایحصل مأموله؛ و لهذا یستعمل بمعنى الخوف – فانّ قویّ الخوف استعمل استعمال الأمل، و علیه قول زهیر:
أَرْجُو وَ آمُلُ أَنْ تَدنُو مَوَدَّتُهَا(21)
و قیل: «حقیقة الآمال – أی: الأمانیّ – هی المواعید الّتی تمنّیها أنفسهم و الأحادیث الکاذبة الّتی تحدّثها نفوسهم، فیغترّون بتراخی الأجل و تمادی الأمل و النعم الإستدراجیّة و الإتّکال على الرحمة و الشفاعة من الرسول و الأئمّة و الکرامة على الله بالأنساب الشریفة و مغفرة الذنوب من غیر التوبة و الخروج من النار بعد أن یصیروا من أهلها من غیر خلودٍ، و تسلیة النفس بتدارک ما فات بالتوفیق لفعل الخیرات،… إلى غیر ذلک من تسویلات الشیطان و مواعیده الکاذبة – نعوذ بالله منها! -.
و من الکلمات اللطیفة لبعضٍ: «لولا الآمال هلک الرجال!».
و حکی أنّه بکى راهبٌ، فقیل له: «ما یبکیک؟
قال: انقضى أجلی و لم ینقص أملی!».
أی: اعصمنا من طول الأمل، لأنّه منشأٌ للذمائم الکثیرة؛ قال الله -تعالى -: (رُبَّمَا یَوَدُّ الَّذِینَ کَفَرُوا لَو کَانُوا مُسْلِمِینَ – ذَرْهُمْ یَأْکُلُوا وَ یَتَمَتَّعُوا وَ یُلْهِهِمُ الاَمَلُ)(22)، نبّه -سبحانه – على أنّ إیثار التلذّذ و التنعّم و ما یؤدّی إلى طول الأمل من أخلاق الکافرین، لا من أخلاق المؤمنین.
و قال بعضهم فی سبب قول الله -تعالى -: (إِنَّمَا أَمْوَالُکُمْ وَ أَولاَدُکُمْ فِتنَةٌ)(23): «أی: اختبارٌ و امتحانٌ لیختبرکم أنّکم تشتغلون بهما عن الله -سبحانه -، فتنسونه و تعصونه أو تذکّرونه و تطیعونه فیهما»؛
و قال رسول الله – صلّى الله علیه و آله و سلّم -: «إنّ أخوف ما أخاف علیکم بعدی إثنان: إتّباع الهوى، و طول الأمل»(24)؛
و فی خطبةٍ لأمیرالمؤمنین – علیه السلام -: «إنّ أخوف ما أخاف علیکم إثنان: إتّباع الهوى، و طول الأمل؛ فأمّا اتّباع الهوى فیصدّ عن الحقّ؛ و أمّا طول الأمل فینسی الآخرة»(25)
روی انّ أسامة بن زیدٍ اشترى ولیدةً بمأة دینار إلى شهرٍ، فبلغ النبیّ – صلّى الله علیه و آله و سلّم -، فقال: «ألاَ تعجبون من أسامة المشتری إلى شهرٍ، انّ أسامة لطویل الأمل!»(26)
و فی روایةٍ انّه اجتمع عبدان من عباد الله، فقال أحدهما للاخر: «ما بلغ مبلغ أملک؟
فقال: أملی إذا أصبحت أن لاأمسی و إذا أمسیت أن لاأصبح!،
فقال: انّک لطویل الأمل! أمّا أنا فلاأؤمّل أن یدخل لی نفسی إذا خرج و لایخرج لی نفسی إذا دخل!!».
و بالجملة الأخبار فی التحذیر و التغیّر عنه تکاد أن لاتحصر؛ و قد تقدّم الکلام علیه مستوفىً؛ فتذکّر!.
و «قصّره» – أی: العمل – «عنّا» متلبّسین «بصدق العمل».
ف- «الباء» للملابسة، و الظرف مستقرٌّ متعلّقٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من الضمیر المجرور ب- «عن». و یحتمل أن یکون للاستعانة، فالظرف لغوٌ متعلّقٌ ب- «قصّره». فانّ من کان عمله صادقاً و أفعاله مرضیّةً لایأبى طبعه الموت لحظةً فلحظةً، بل یتمنّیه فیقصّر أمله، إذ بالموت یتخلّص عن صحبة الأغیار بالکلّیّة و یرجع إلى لقاء الحضرة الأحدیّة.
و من جملة الأغیار المحبوبة بالمحبّة المجازیّة هی النفس و الأهل و الولد و المال و الجاه و الشهرة. و کلّ محبّةٍ لمحبوبٍ مجازیٍ یمنعه عن نحوٍ من العبودیّة التامّة و المحبّة الحقیقیّة للحضرة
الأحدیّة؛ فمن غلب علیه محبّة المال تمنعه عن الزکاة، و محبّته للوطن تمنعه عن الحجّ، و محبة البدن بالأکل و الشرب تمنعه عن الصوم، و محبّة النفس تمنعه عن الجهاد، و محبّة الجاه و الشهرة تمنعه عن تعلّم العلوم الحقیقیّة عن الغیر و الإعتراف بقصوره و جهله و الإقرار بفضیلة من هو أعلم منه کثیراً؛ فترک کلٍّ منها علامةٌ من علامات محبّة الله من جهة إمتثال أمره بما یکرهه و نهیه عمّا هو یحبّه. فمهما ترک جمیع محبوباته حصل له علامة الإستعداد للقاء الله، فیهون عند ذلک علیه الموت – لأنّ محبة کلّ شیءٍ سوى الله فرع محبّة النفس -، فمهما ترک بمحبّة الله محبّة النفس زالت عنه محبّة کلّ شیءٍ سوى الله، فصار ولیّاً من أولیاء الله عارفاً به مشتاقاً إلیه، فیتمنّی الموت!. فتمنّی الموت لهذا الوجه یکون من علامة ولایة الله و عرفانه؛ و لذا قال: (فَتَمَنَّوُا الْمَوتَ إِنْ کُنتُمْ صَادِقِینَ)(27) و من لم یترک محبّة النفس یکون من أعداء الله، فحال المحبّ الصادق و المحقّق العاشق تمنّی الموت؛ کما قال المولویّ:
أقتلونی أقتلونی یا ثقات!++
إنّ فی قتلی حیاةً فی حیات
من ز جان سیر آمدم اندر فراق++
زنده بودن در فراق آمد نفاق
چند درد فرقتش بکشد مرا++
سر ببر تا عشق سر بخشد مرا
آزمودم مرگ من در زندگیست++
چون رهم زین زندگى پایندگیست(28)
و فی الحدیث: «من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه، و من کره لقاء الله کره الله لقاءه»(29)، أی: محبّة العبد للقاء الله نتیجة محبّة الله -تعالى – للقاء العبد بحسب الخدمة الإلهیّة – الّتی لایوازیها عمل الثقلین -؛ و لذا قال: (یُحِبُّهُمْ وَ یُحِبُّونَهُ)(30) بتقدیم الأوّل على الثانی، دون
العکس. بخلاف حال الواقف الجاهل و المبتدع المضلّ، لأنّ «من طال أمله ساء عمله!»(31) و یأبون عن الموت (وَ لاَیَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَیْدِیهِمْ)(32) و اکتسبت نفوسهم من ملکة محبّة الدنیا و لذّاتها و شهواتها، و ملکة الإنجذاب إلى دواعیها و أغراضها. فصارت نفوسهم مقیّدةً بها محبوسةً فیها لتکرّر الأفاعیل البدنیّة الشهویّة و الغضبیّة و تکثّر الأعمال الحیوانیّة البهیمیّة و السبعیّة الموجبة للرکون إلى نعیم الدنیا و زهراتها و الإخلاد إلى أرض الشهوات و الإستغراق فی أبحر اللذّات.
و منشأ هذه الأعمال و الأفعال کلّها هو الفساد فی الإعتقاد و الشکّ فی بقاء النفس فی المعاد و رجوعها إلى الواحد القهّار. فصارت هذه الأخلاق الردیّة و الملکات الدنیّة – الحاصلة من تکرّر الإلتفات إلى عالم الخلق و تکثّر الإعراض و الإستیحاش عن عالم الحقّ و ملکوته الأعلى – مسامیر مؤکّدة و أوتاد مستحکمة فی النفس بحیث لافرق عندهم بین ترک البدن و نزع الروح عن الدنیا و بین ترک اللذّات و نزع الرُوح عن الرَوح!، لأنّ نفوسهم صارت کأنّها عین البدن، و لهذا لایمکنهم تصوّر بقاء النفس من دون استعمالها للحواسّ و اشتغالها بالمحسوسات. فلو فرضوا انّ أحداً یقوم بنفسه من غیر مباشرة الأکل و الشرب و الوقاع و لامصادفة الأقرباء و العشایر و الدیار و العقار و الضیاع و المواشی و غیرها، بل یکتفی بذکر الله و عالم ملکوته لاستحالوا ذلک و عدّوا حاله من أسوء الحالات! و شبّهوه بحالة الأموات و الجمادات!!، جهلاً بأنّ غایة ما سمّوه لذّةً و غبطةً بالنسبة إلى ما یجده أولیاء الله – من ملاحظة حضرة الربوبیّة و مشاهدة العاکفین لجنابه – أشبه بأن یسمّى عذاباً و أحرى من أن یسمّى لذّةً و راحةً!.
کیف و لوکان ما زعموه حقّاً لکان البغال و الحمیر أوفر سعادةً و أجلّ سروراً من
ملائکة الله – الّذین طعامهم الذکر و التحمید و شرابهم التنزیه و التقدیس -. و قد علمت فیما سبق أنّ ما عندالله خیر الخیرات و أبهج اللذّات، و انّ کلّ بهجةٍ و لذّةٍ ینطوی فی إدراک ذاته و شهود صفاته؛ فلذا لذّة العلم بالله و ملائکته و کتبه و رسله و الیوم الآخر ألذّ اللذّات عند العارف الربّانیّ. فلاتتعجّب من إیثار هذه اللذّة على سائر اللذات و استیحاشه عن صحبة الخلق و مستلذّاتهم إلى حیث یصیر طرده الناس و استحقروه، خصوصاً المشعوفون بالعقول الناقصة الدنیویّة و العلوم الجزئیّة المعروفة عند الناس – الّتی یوجب مراجعة الخلق لهم -. و لهذا قال بعضهم: «إذا بلغ الرجال إلى غایةٍ یستغرق فی العلم بالله رماه الناس بالحجارة!» أی: یخرج کلامه عن حدّ عقولهم فیرون ما یقوله جنوناً.
و قصد العارفین کلّهم ملاحظة لقائه و مشاهدة ملکوته فقط، و فیه قرّة عینهم الّتی (فَلاَتَعلَمُ نَفْسٌ مَا أَخْفَى لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْیُنٍ)(33)، فصارت الهموم کلّها فیهم همّاً واحداً!.
بل من عرف الله عرف أنّ اللذّات المفرّقة بالشهوات المختلفة کلّها تنطوی تحت هذه اللذّة – کما قال بعضهم:
کَانَتْ لِقَلبِیَ أَهوَاءٌ مُفَرَّقَةٌ++
فَاسْتَجمَعَتْ – إِذْ(34) رَأَتْکَ الْعَینُ – أَهوَائِی
فَصَارَ یَحْسِدُنِی مَنْ کُنتُ أَحْسُدُهُ++
وَ صِرتُ مَولَى الْوَرَى مُذْ صِرْتَ مَولاَئِی
تَرَکْتُ لِلنَّاسِ دُنیَاهُمْ وَ دِینَهُمُ++
شُغْلاً بِذِکْرِکَ(35) یَا دِینِی وَ دُنْیَائِی(36)
و قال بعضهم:
وَ هِجْرُهُ أَعْظَمُ مِنْ نَارِهِ++
وَ وَصلُهُ أَطْیَبُ مِنْ جَنَّتِهِ(37)
فمن عرف الله انمحقت عنه الهموم و الدواعی – سواءٌ کانت من باب الدرهم و الدینار، أو من باب الجنّة و النار، أو من باب البحث و التکرار و الصیت و الإشتهار -، و اضمحلّت عنه
الشهوة و الغضب و قهر تشویشهما بغلبة المعرفة بالله – مبدء کلّ حبٍّ و طلبٍ -؛ فلاداعی سوى الله لجلب منفعةٍ أو دفع مضرّةٍ. فلوألقی فی النار لم یحسّ بها!، و لوعرض علیه نعیم الجنّة لم یلتفت إلیها!. فکیف إلى هذه اللذّات المحدجة؟!؛ و لهذا قال أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالبٍ – علیه السلام -: «ما عبدتک خوفاً من نارک و لاطمعاً فی جنّتک، بل وجدتک مستحقّاً للعبادة فعبدتک»(38)
و قال بعض العرفاء: «إن أدخلنی الله الجنّة بمرادی فویلٌ لی!، و إن أدخلنی بمراده فنعم الحبس!».
و قال أبوسلیمان الدّارانیّ: «انّ لله عباداً لیس یشغلهم عن الله خوف النار و رجاء الجنّة، فکیف یشغلهم الدنیا عن الله؟!»؛
و عن مولانا الصادق – علیه السلام – انّه قال: «لویعلم الناس ما فی فضل معرفة الله -تعالى – ما مدّوا أعینهم إلى ما متّع به الأعداء من زهرة الدنیا و نعیمها؛ و کانت دنیاهم أقلّ عندهم ممّا یطؤونه بأرجلهم. و لنعمّوا بمعرفة الله -تعالى – و تلذّذوا بها تلذّذ من لم یزل فی روضات الجنّات مع أولیاء الله. إنّ معرفة الله -تعالى – آنسٌ من کلّ وحشةٍ و صاحبٌ من کلّ وحدةٍ و نورٌ من کلّ ظلمةٍ و قوّةٌ من کلّ ضعفٍ و شفاءٌ من کلّ سقمٍ»؛ ثمّ قال: «قد کان قبلکم قومٌ یقتلون و یحرقون و ینشرون بالمناشیر و تضیق علیهم الأرض برحبها، فما یردّهم عمّا هم علیه شیءٌ ممّا هم فیه من غیر تِرَةٍ وتروا من فعل ذلک بهم و لاأذىً بما نقموا منهم(إِلاَّ أَنْ یُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِیزِ الحَمِیدِ)(39)، فاسألوا ربّکم درجاتهم و اصبروا على نوائب دهرکم تدرکوا سعیهم»(40)
تکملةٌ
فی حکمة الموت
و حکمة نفرة النفوس عنه
اعلم! أنّه قد تقرّر فی العلوم الکلّیّة بیان حکمة الموت و حکمة نفرة النفوس عنه؛ أمّا حکمة الموت فلأنّ کون النفس فی هذه الدنیا حال نقصٍ دون التمام، و کونها فی الآخرة حال تمامٍ، فالبقاء على حال التمام أفضل و أکمل و ألذّ و أشرف؛ کما انّ حال الأبدان فی الأرحام حال نقصٍ عن التمام و الکمال، و حالها بعد الولادة حال تمامٍ و کمالٍ – کما لایخفى على أحدٍ -.
و لایجوز فی العنایة الربّانیّة إهمال شیءٍ من الکمالات و الخیرات و عدم الإجادة به على مستحقّه، فیجب – بمقتضى جوده و رحمته – إکمال کلّ ناقصٍ بکماله اللائق بحاله. و کما انّه لایمکن الوصول إلى تمام الخلقة البدنیّة فی الدنیا إلّا بعد تقدّم حال النقص فی الرحم و الجواز علیه و الخروج عنه، فکذا حال الأرواح فی تمام تکوّنها الأخرویّ و نشأتها الثانویّة؛ فانّها لایصل إلیها إلّا بعد تقدّم حال النقص فی رحم الدنیا و الورود فیها و الجواز علیها و الخروج عنها. فحال الأرواح بعد الموت على موازنة حال الأبدان بعد مفارقتها الأرحام، لأنّ الموت لیس معناه سوى مفارقة الروح الجسد و الدنیا، کما انّ الولادة لیست سوى مفارقة الجسد المشیمة و الرحم.
فالدنیا کالرحم، و البدن کالمشیمة، و الروح کالجنین، و ألم النزع کألم الولادة، و ملک الموت کالقابلة، و القبر کالمهد، و فضاء الآخرة و أنوارها الإلهیّة و الجبروتیّة و الملکوتیّة بالنسبة إلى ضیق الدنیا و ظلماتها الثلاث – الّتی بعضها فوق بعضٍ: ظلمة الهیولى، و ظلمة الطبیعة، و ظلمة النفس بدواعیها الشهویّة و الغضبیّة و الوهمیّة – کفضاء الدنیا و أنوارها الشمسیّة و القمریّة و السراجیّة بالنسبة إلى ضیق الخوف و ظلماته الثلاث -: ظلمة المشیمة، و ظلمة الرحم، و ظلمة البطن؛ أو: الظلمات الجمادیّة، و النباتیّة، و الحیوانیّة -.
و أمّا حکمة کراهة الموت للأرواح: فانّ الله -تعالى – جعل بواجب جکمته فی طبع النفوس محبّة الوجود و البقاء أبداً سرمداً، و جعل فی جبلّتها کراهة الفناء و العدم، لأنّ
الوجود خیرٌ محضٌ مؤثَّرٌ عند الکلّ. فیحبّه کلّ أحدٍ و یبغض زواله، و الموت یزیل هذا الوجود الدنیویّ؛ فیکون مکروهاً؛ هذا هو السبب الفاعلیّ.
و أمّا السبب الغائیّ و حکمته فتتحرّص النفوس بطباعها و غرائزها على حفظ البقاء و تهرب عن الأضداد و المفسدات قبل بلوغها إلى درجة الکمال.
و قال صدر الحکماء و المحقّقین: «و هیهنا وجهان آخران:
أحدهما: إنّ الباری – جلّ مجده – لمّا کان ذاته بذاته علّة الموجودات و مقوّم الحقائق و مقوّم الکائنات و ممسک الأرض و السماوات و هو باقٍ أبداً صارت الموجودات کلّها تحبّ البقاء و یشتاق إلیه – لأنّه صفة موجدها و علّتها، و المعلول یحبّ العلّة و صفاتها و یشتاق إلیها -. فمحبّة البقاء و کراهة الفناء من فروع محبّة الباری – جلّ ذکره -. فمن أجل هذا قالت الحکماء الأقدمون و العرفاء المحقّقون: «إنّ الباری – جلّ ثناؤه – و هو المعشوق الأوّل تشتاقه سائر الخلائق جبلّةً و فطرةً، و یدور علیه الکلّ طبعاً و إرادةً؛
و ثانیهما: إنّ أکثر النفوس لایدری بأنّ لها وجوداً خلواً عن الأجسام، فیتوهّم انّ الموت فناء الذات بالکلّیّة.
فان قیل: لم لایلهم الله النفوس بأنّ لها وجوداً مستقلّاً لاحاجة فیه إلى هذا البدن؟،
قلنا: لأنّه لایصلح لها العلم بهذه المعانی، إذ لوعلمت لفارقت أجسادها قبل أن یتمّ و یکمل؛ أو تهاونت فی تدبیرها کما ینبغی، فأدّت الأجساد إلى الفساد قبل استعدادها للمعاد، و هذا مما یبطل حکمة إیجاد العباد.
و أیضاً: إذا فارقت النفوس الأجساد قبل ذلک بقیت فارغةً معطّلةً بلاشغلٍ و عملٍ، و «لامعطّل فی الوجود»(41) و الحکمة تقتضی أن لایکون شیءٌ من الموجودات مهملاً معطّلاً، کما انّ الباری – جلّ ذکره – لم یخل أبداً من تدبیرٍ و صنعٍ و إفاضةٍ، بل (کُلَّ یَومٍ هُوَ فِی
شَأْنٍ)(42) فظهر انّ الموت لابدّ و أن یلاقیه الإنسان من جهة القضیّة الربّانیّة مع کونه مکروهاً، تفرّ و تنفرّ منه النفوس بحسب ما هو مرکوزٌ فی غرائزها من جهة التدبیر الإلهیّ. و لذلک سلّط علیها دواعی هی أسباب دوامها الدنیاویّ، و هی بعینها أسباب عطبها و هلاک هیاکلها و شقاوة نوسها. و هذا من عجائب حکمة الله فی هذا العالم حیث یکون سبب البقاء بعینه سبب الهلاک و الشقاوة!.
و تلک الأسباب و الدواعی المسلّطة هی مثل الجوع و العطش و الشهوات المختلفة و الأشواق و اللذّات الزائلة. أمّا قصد الباری فی تکوین الجوع و العطش و تسلّطهما على النفوس لیدعوها إلى الأکل و الشرب لیخلف على أبدانها من الکیموسات الصالحة بدلاً عمّا یتحلّل منها ساعةً فساعةً لیبقى بها الشخص و النوع، إذ کانت أجسامها دائماً فی التحلّل و الذوبان و السیلان.
و أمّا الشهوات المستولیة فلأن یدعوها إلى الأغذیة الجیّدة و المأکولات المختلفة الموافقة لأمزجة أبدانها و ما یحتاج إلیه طباعها مدّة الکون؛
و أمّا اللذّة فلأن یکون ما یأکل و یشرب بقدر الحاجة، و لایزید و لاینقص؛
و أمّا الّذی یعرض لها من الآلآم و الأوجاع عند الأمراض و الآفات العارضة لأجسادها فلأن یحرص النفوس على حفظ أجسادها من الآفات لیبقى إلى وقتٍ معلومٍ، و لایفسد قبل بلوغ النفس إلى کمالها اللائق بحالها؛ فانّ استکمالها بالعلم و العمل و بلوغها إلى درجة العقل و العقول بالفعل إنّما یحصل بالآت البدن و استعمال حواسّه الظاهرة و الباطنة مدّةً؛ و لذا قیل: «من فقد حسّاً فقد علماً»(43)؛ انتهى کلامه.
تتمیمٌ
اعلم! أنّ السبب البرهانیّ لعروض الموت الطبیعیّ – غیر ما اشتهر فی کتب الطبیعیّ و الطبّیّ – هو: انّ الطبیعة بحسب ما أودعه الله فی جبلّتها إذا جاوزت النوع الأخسّ و قد بقیت بعد فلابدّ و أن یتخطّى النوع الأشرف، و إلّا لکانت معطّلةً، و لامعطّل فی الوجود.
و قد تقرّر أیضاً فی العلوم الإلهیّة انّ الطبیعة العنصریّة ما لم یوفّ النوع الأخسّ لم یتجاوز منه النوع الّذی فوقه. ثمّ لاشبهة فی أنّ الإنسان بحسب کمال خلقته البدنیّة أشرف الأنواع الحیوانیّة – لکونه تامّ الحواسّ مع قوّتین أخریین یخصّان به، و هما نظریّةٌ و عملیّةٌ -؛ فمعلومٌ انّ الطبیعة قد تجاوزت عن جمیع الحدود المترتّبة الّتی فی سائر الحیوانات بعد ما تجاوزت عن سائر الدرجات النباتیّة المتجاوزة عن الجمادیّة و الجسمیّة و الوجوهریّة المطلقة و الشیئیّة العامّة و هی بعدُ فی الحرکة المعنویّة، و لم یبق من الصور و الأنواع الممکنة فی عالم الطبیعة و نشأة الدنیا الدنیّة إلّا و تجاوزت عنه متوجّهةً نحو غیره، فلابدّ من توجّهها و رجوعها إلى عالم الآخرة و عند الله – سواءٌ کانت سعیدةً مسرورةً، أو شقیّةً مخذولةً معذّبةً منکوسةً -، لأنّ هذه الحرکة من النفس لیست إختیاریّةً، بل إضطراریّةً جبلّیّةً. فالموت الطبیعیّ عبارةٌ عن تجاوز الطبیعة الإنسانیّة عن مراتب الإستکمالات الحیوانیّة المناسبة لها فی هذه الدار – و هی عالم الشهادة – إلى أوّل نشأةٍ تکون لها فی الدار الآخرة – عالم الغیب -.
فما ذکرناه لک أوّلاً هو السبب الغائیّ، و هذا هو السبب البرهانیّ اللمّیّ. فافهم و اغتنم، فانّه عزیزٌ جدّاً لایوجد فی کتب القوم!.
قوله – علیه السلام -: «لانؤمّل» متعلّقٌ ب- «قصّره»؛ و یحتمل أن یتعلّق ب- «صدق العمل»؛ أی: زد صدق عملنا مرتبةً مرتبةً حتّى لانؤمّل و لانرجوا طلب تمامیّته ساعةً بعد ساعةٍ -… إلى آخر الفقرة -.
قوله: «من غروره» أی: غرور الأمل؛ و منه ینشأ تسویف التوبة.
وَ انْصِبِ الْمَوْتَ بَیْنَ أَیْدِینَا نَصْباً، وَ لاَتَجْعَلْ ذِکْرَنَا لَهُ غِبّاً. وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ صَالِحِ الاَعْمَالِ عَمَلاً نَسْتَبْطِئُ مَعَهُ الْمَصِیرَ إِلَیْکَ، وَ نَحْرِصُ لَهُ عَلَى وَشْکِ
اللَّحَاقِ بِکَ حَتَّى یَکُونَ الْمَوْتُ مَأْنَسَنَا الَّذِی نَأْنَسُ بِهِ، وَ مَأْلَفَنَا الَّذِی نَشْتَاقُ إِلَیْهِ، وَ حَامَّتَنَا الَّتِی نُحِبُّ الدُّنُوَّ مِنْهَا.
«نصباً»: مفعولٌ مطلقٌ مؤکّدٌ لعامله؛ أی: اجعل ذلک الموت حاضراً مقابلاً لأعیننا بحیث لایغیب عنّا لحظةً.
<و «الغِبّ» - بالکسر -: أن ترد الإبل الماء یوماً و تدعه یوماً؛ و منه حمیّ الغبّ - و هی الّتی تأخذ یوماً و تدع یوماً -؛ و فی الحدیث: «زر غِبّاً تزدد حبّاً»(44) >(45)؛ أی: لاتجعل ذکرنا للموت یوماً و یوماً لا، أو نذکّره تارةً و ننساه أخرى؛ بل اجعله دائماً فی ضمیرنا. <و فی الحدیث: «أکثروا من ذکر هادم اللذّات»(46)، و ذلک لاستلزامه تقصیر الأمل و الجدّ فی العمل.و قیل: «ذکر الموت یطرد فضول الأمل و یکفّ عزب المُنى و یهوّن المصائب و یحول بین الإنسان و الطغیان»>(45)
و «استبطأت» الأمر: عددته و رأیته بطیئاً.
و «المصیر»: مصدرٌ میمیٌّ من: صار إلیه بمعنى: رجع.
و «حرَص» على الشیء – من باب ضرب – حرصْاً: رغب فیه رغبةً شدیدةً؛ أی: نعدّه بطیئاً مع ذلک العمل و نستعجل إلیک شوقاً إلى لقائک و ما عندک؛ فإنّا بیّنا آنفاً انّ من کان عمله صادقاً یتمنّی الموت و یعدّه بطیئاً إذا تأخّر.
و «نحرص له» أی: لأجل ذلک العمل.
و «الوَُشک» – بالفتح و الضمّ -: السرعة، و منه: وشک البین أی: سرعة الفراق؛ أی: على سرعة اللحوق بجوار رحمتک.
و «حتّى» إمّا حرف الجرّ، أو بمعنى: کی.
و «المأنس» إمّا مصدرٌ میمیٌّ، أو اسم مکانٍ؛ أی: الموضع الّذی یأنس به الإنسان و یسکن إلیه قلبه و لاینفرّ منه و لایستوحش فیه.
و قس علیه «المألف».
و «الحامّة»: الخاصّة و الأقرباء(47)
فَإِذَا أَوْرَدْتَهُ عَلَیْنَا وَ أَنْزَلْتَهُ بِنَا فَأَسْعِدْنَا بِهِ زَائِراً، وَ آنِسْنَا بِهِ قَادِماً، وَ لاَتُشْقِنَا بِضِیَافَتِهِ، وَ لاَتُخْزِنَا بِزِیَارَتِهِ، وَ اجْعَلْهُ بَاباً مِنْ أَبْوَابِ مَغْفِرَتِکَ، وَ مِفْتَاحاً مِنْ مَفَاتِیحِ رَحْمَتِکَ.
«الفاء» للترتیب فی الذکر.
و «زائراً»: اسم فاعلٍ من زاره یزوره زوراً و زیارةً أی: قصده؛ <ثمّ خصّت الزیارة فی العرف بقصد المزور إکراماً له واستیناساً به>(48) و هو منصوبٌ على الحالیّة من الضمیر المجرور؛ أی: إذا أوردت الموت «علینا و أنزلته بنا فأسعدنا به» أی: اجعلنا سعیداً به بإعطاء الإیمان و استقراره عنده حال کون الموت «زائراً» لنا.
و «القادم»: اسم فاعلٍ من: قدِم الرجل البلد – من باب تعب – قدوماً: إذا أورده و حصل فیه، و هو أیضاً منصوبٌ على الحالیّة.
و «الضیافة»: اسمٌ من أضفته: إذا أنزلته و قرّیته؛ یقال: ضفت الرجل ضیافةً: إذا نزلت علیه ضیفاً. و أیّ ضیفٍ أعزّ من الموت تطعمه الروح و لایصلح لضیافته إلّا هی!.
قوله: «و لاتخزنا» – بالخاء المعجمة -: من الخزی. و فی نسخةٍ: بالحاء المهملة، من الحزن.
و «اجعله» أی: الموت.
أَمِتْنَا مُهْتَدِینَ غَیْرَ ضَالِّینَ، طَائِعِینَ غَیْرَ مُسْتَکْرِهِینَ، تَائِبِینَ غَیْرَ عَاصِینَ وَ لاَمُصِرِّینَ، یَا ضَامِنَ جَزَاءِ الُْمحْسِنِینَ وَ مُسْتَصْلِحَ عَمَلِ الْمُفْسِدِینَ!.
«أمتنا» بصیغة الأمر من باب الإفعال. و الجملة مستأنفةٌ إستینافاً بیانیّاً، کأنّه سئل: کیف أسعدکم به زائراً؟
فقال: أمتنا حال کوننا «مهتدین غیر ضالّین، طائعین غیر مستکرهین -… إلى آخره -»؛ أی: ارزقنی عند الموت هدایةً لاضلالة معها، و انقیاداً لااستکراه معه، و توبةً لاعصیان معها فی الکبائر و لاإصرار معها فی الصغائر؛ استدعاءً لحسن الخاتمة.
هذا آخر اللمعة الأربعین من لوامع الأنوار العرشیّة فی شرح الصحیفة السجّادیّة، وفّق الله -تعالى – لإتمامها عصر یوم الخمیس من العشر الآخر من شهر شعبان سنة إحدى و ثلاثین و مأتین و ألفٍ من الهجرة المقدّسة النبویّة.
1) کریمة 30 الزمر.
2) کما عن المحقّق الداماد فی لفظة «المائت»، راجع: «شرح الصحیفة» ص 324، و انظر: «صحاح اللغة» ج 1 ص 267 القائمة 2.
3) کریمة 2 الملک.
4) و انظر فی حقیقة الموت: «رسائل إخوان الصفا» ج 3 ص 397، «الشواهد الربوبیّة» ص 82،«الرسائل» – لصدرالمتألّهین – ص 334.
5) لم أعثر علیه منسوباً إلیه – صلّى الله علیه و آله و سلّم -، و انظر: «غرر الحکم» الحکمة 2291ص 133.
6) لم أعثر علیه أیضاً منسوباً إلیه – صلّى الله علیه و آله و سلّم -، و ورد فی خطبةٍ لعمر بن عبدالعزیز، راجع: «مجموعة ورّام» ج 1 ص 144، و انظر: «بحارالأنوار» ج 37 ص 146.
7) کریمة 156 البقرة.
8) کریمة 55 طه.
9) المصدر: فالأوّل.
10) المصدر: الحیوانات.
11) کریمة 11 ق.
12) المصدر: الحاسّة.
13) کریمة 66 مریم.
14) کریمة 122 الأنعام.
15) کریمة 80 النمل.
16) المصدر: یقصد.
17) کریمة 17 إبراهیم.
18) المصدر: المنام فقیل.
19) کریمة 42 الزمر.
20) راجع: «مفردات ألفاظ القرآن» ص 781 القائمة 2 – مع اختصارٍ فی الأمثلة -، و انظر أیضاً: «شرح الصحیفة» ص 322.
21) فحصت «دیوان زهیر» المطبوع مع شرح الأعلم الشنتمری طبعة النعسانی بمصر سنة 1323،و لکن لم أعثر علیه فیه.
22) کریمتان 2، 3 الحجر.
23) کریمة 15 التغابن.
24) راجع: «بحارالأنوار» ج 34 ص 172، و انظر: «مستدرک الوسائل» ج 1 ص 106 الحدیث108، «شرح نهج البلاغة» ج2 ص 179.
25) راجع: «نهج البلاغة» الکلمة 42 ص 83، «بحارالأنوار» ج 74 ص 419.
26) راجع: «مستدرک الوسائل» ج 2 ص 109 الحدیث 1560، «بحارالأنوار» ج 70 ص 166،«روضة الواعظین» ج 2 ص 437، «مجموعة ورّام» ج 1 ص 50، و انظر: «شرح نهج البلاغة»ج 18 ص 127.
27) کریمة 94 البقرة / 6 الجمعة.
28) راجع – حسب الترتیب الموجود فی النصّ -: «مثنوى معنوى» ج 2 ص 218 البیت 14، ج 3ص 507 البیت 1، نفس المصدر البیت 2، ج 2 ص 218 البیت 13.
29) راجع: «مستدرک الوسائل» ج 2 ص 105 الحدیث 1551، «بحارالأنوار» ج 6 ص 133،«فلاح السائل» ص 74، و انظر: «الکافی» ج 3 ص 134 الحدیث 12، «وسائل الشیعة» ج 2ص 428 الحدیث 2550.
30) کریمة 54 المائدة.
31) راجع: «غررالحکم» الحکمة 7258 ص 313، «مجموعة ورّام» ج 1 ص 275، «تحف العقول»ص 399، «بحارالأنوار» ج 75 ص 314.
32) کریمة 7 الجمعة.
33) کریمة 17 السجدة.
34) المصدر: مذ.
35) المصدر: بحبّک.
36) الأبیات للحلّاج، راجع: «دیوانه»، فصل «ما ینسب إلیه و إلى غیره من الشعراء» ص 81.
37) لم أعثر على قائله.
38) راجع – مع تغییرٍ -: «بحارالأنوار» ج 41 ص 14، «عوالی اللئالی» ج 2 ص 11 الحدیث 18،«القصص» – للجزائریّ – ص 211، «نهج الحقّ» ص 248.
39) کریمة 8 البروج.
40) راجع: «الکافی» ج 8 ص 247 الحدیث 347، و لم أعثر علیه فی غیره.
41) هذا من القواعد المنصوصة علیها بین الحکماء، فانظر: «الحکمة المتعالیة» ج 5 ص 328.
42) کریمة 29 الرحمن.
43) لم أعثر علیه، و توجد قطعاتٌ من هذه الفقرة فی «الحکمة المتعالیة» ج 7 صص 98، 102.
44) راجع: «مستدرک الوسائل» ج 10 ص 374 الحدیث 12210، و انظر أیضاً: «بحارالأنوار» ج30 ص 414.
45) قارن: «ریاض السالکین» ج 5 ص 348.
46) راجع: «وسائل الشیعة» ج 2 ص 435 الحدیث 2572، «مستدرک الوسائل» ج 2 ص 104الحدیث 1548، «بحارالأنوار» ج 6 ص 132، «إرشاد القلوب» ج 1 ص 48، «أعلام الدین»ص 335.
47) و انظر: «شرح الصحیفة» ص 329.
48) قارن: «ریاض السالکین» ج 5 ص 355.