و ناهیک ما ابتدعه هؤلاء من الأحادیث حباً للدنیا بما یقربهم عند السلطان زلفی، لمخالفتهم الشرع و خروجهم عن سلطان العقل.
و هناک عناصر فی الوضع من طراز آخر، و هم الذین قاموا بنصر مبادئهم فی وضع الاحادیث علی لسان صاحب الرسالة بدون مبالاة.
فهذا نعیم بن حماد بن معاویة المتوفی سنة 227 ه کان ماهراً فی وضع الحدیث، متجرئاً علی مقام صاحب الرسالة. قال الذهبی: و کان یضع الحدیث فی تقویة السنة، و حکایات فی ثلب ابیحنیفة و کان صلباً فی السنة.
و منهم أحمد بن عمرو بن مصعب بن بشر، کان من الوضاعین و من أهل السنة المجودین، و وضع بذلک کتباً فی تقویة السنة کلها موضوعة منتشرة عند الخراسانیین فی عصره، و کان معروفاً فی نصرة السنة بوضع الأحادیث الکاذبة عن الثقاة.(1)
و منهم علی بن أحمد بن محمد بن عمر و کان شدید العصبیة فی السنة یضع الاحادیث فی نصرتها.(1)
و منهم أحمد بن عبدالله الانصاری کان من الوضاعین لنصرة السنة، و هو واضع الحدیث عن ابنعمر مرفوعاً فی قوله تعالی: «یوم تبیض وجوه و تسود وجوه» قال: فاما الذین ابیضت وجوههم: أهل السنة و اما الذین اسودت وجوههم: أهل البدعة و غیرهم(2) و سیأتی الحدیث عنهم فی الاجزاء الآتیة.
لقد کان خطر اولئک الدجالین عظیماً جداً، فانهم تزلفوا لولاة الأمر بوضع الاحادیث، فاتخذوا منهم اعواناً علی حل مشاکل یعجزهم حلها بالقوة، ولکنهم جعلوا ما یضعونه وسیلة لتعزیز مرکزهم أولا، و مقابلة خصومهم ثانیاً، و اشغال الرأی العام ثالثاً، و کان الأمر الذی یهمهم قبل کل شیء هو أمر الشیعة الذین آثروا تضحیة النفس علی الاذعان للخصم، و لم تربطهم معهم رابطة، ولم یعترفوا بصحة تلک الولایة الجائرة، فلا یصح لهم السکوت عن معارضتها و هم ظالمون لهذا المنصب، لذلک اتخذت السلطة معهم طرق المکر و الخداع و التمویه علی الناس، حتی بلغ بهم الأمر الی وضع الأحادیث بخروج الشیعة عن الاسلام کما مر بیانه، و هی تدل بمنطوقها علی تحلیل دمائهم و معاملتهم معاملة الکفرة، و هیهات ان ینطبق لک علی الواقع، و رجال الامة لم یکونوا بتلک الدرجة من الانحاط و عدم المعرفة بحیث یجهلون الشیعة و ما لهم من الاثر فی المجتمع الاسلامی، فقبول مثل تلک المنکرات أمر شاق یعصب تحقیقه و یبعد نجاحه، ولکن السلطة بذرت تلک البذرة فی اذهان السواد و جعلت تتعهدها و تحسن رعایتها بید علماء السوء، الذین اتخذوهم أعواناً فی ساعة هم أحوج الیهم من السیف و الجند، فقوة فتکهم اثمرت الشحناء بین
أفراد المجتمع الاسلامی، و ترکوها قرحة دامیة فی جسم الامة عجز رجال الاصلاح من علاجها حتی ایامنا هذه.
و قد کان اولئک الدجالون علی انواع فی الوضع، و اختلاف فی الغایة. فمنهم من یضع الحدیث طمعاً فی الدنیا و تزلفاً لولاة الأمر و هم الذین نعبر عنهم بلجنة الوضع، و اول من اتخذ ذلک معاویة بن ابیسفیان.(3)
و منهم من کان یتعصب لمبدئه فیضع الحدیث تقویة له، و مخالفة لخمصه و یعدون ذلک تدیناً، و سینالون الجزاء علیه یوم الجزاء.
و منهم من یضع الحدیث فی نصرة مذهبه، و هؤلاء یرون الانتصار لمذهبهم انتصاراً للحق و مقاومة للباطل، و زین لهم الشیطان أعمالهم فراحوا یضربون الأحادیث بمهارة فی الضرب، و یخلقون الحکایات و القصص.
و یطول بنا الحدیث اذا أردنا التوسع فی البحث عن الوضاعین و الکذابین، و لعل لنا فی الوقف متسعاً فننشر اسماءهم، و قد أحصی شیخنا الأمینی منهم عدداً بلغ ستمائة و عشرین، و مجموع ما وضعوه من الاحادیث و ما قلبوا أسانیده علی اختلاف الاهواء و النزعات فکان 408324 حدیثا.(4)
و قد أخرجنا من تلک الموضوعات ما یقارب الاربعمائة فی الفضائل و المناقب و فی بعضها أساطیر لا أحادیث، و حکایات یصنعها القصاصون بمهارة و یبثونها بین الناس.
و من اعظم تلک الافتعالات هی اسطورة ابنسبأ التی لا زالت تحتل مکانتها فوق صفحات التاریخ و تأخذ وقتاً من کتاب عصرنا الحاضر.
و لعمری إنها محنة ولکن کیف المخرج؟ و هل یتسنی لنا تصفیة الحساب لنعالج هذا المشاکل؟ کیف و قد سری داؤها فی المجتمع، و أخذها المهرجون مأخذ القبول و جعلوها بمحل الاعتبار، و راحوا یؤیدون تلک الموضوعات اذ وافقت أغراضهم، و جعلوها فی منهاج الاحتجاج، و لم یلتفتوا لحالها و حال رواتها ممن أعماه التعصب، فضعفت مواهب إدراکه، و لم یستطع تمییز الحق من الباطل، و قد خانه الاتزان و التعقل، فهوس و هرج و موه و افتری، و حاول اخفاء حقیقة لا یمکن اخفاءها.
1) تاریخ بغداد ج 5 ص 73.
2) شذرات الذهب ج 3 ص 226.
3) شرح النهج ج 1 ص 258.
4) الغدیر ج 5 ص 245.